وليت الحديث كان عن تلك الأيام المزهوة.. الزاهية.. البديعة المترفة.. ليتها كانت عودة إلى ذاك الزمان الذي كان السودان.. فيه مورقاً.. مخضراً.. ومنعشاً.. ليت الحديث عن أيام الطلب.. ووابل الإبداع يتساقط علينا من سحب الدهشة مطراً وعلماً وعطراً.. ليت الحديث كان عن تلك «الحصة» المبهرة.. و«مسز جنات» تذهب بنا إلى أرض مانديلا.. ونحن نصافح.. ونسالم مجاري «الزولو» تتقدمنا الأستاذة الانجليزية الرقيقة والرفيعة.. ونحن نتجول في إبهار وعبر الصفحات في تلك القصة الرهيبة.. أبكِ يا وطني الحبيب.. يا ريت.. لو كان الأمر كذلك.. ولكن كما يقول المغني.. يا ريت.. يا ريت.. يا ريت ما بتنفع.. ليتنا كنا نبكي في تلاحم إنساني شاهق وشاسع مع الأحبة الأشداء في جنوب افريقيا.. البكاء سادتي.. للوطن.. السودان.. وها هي دموعنا تهطل في طوفان.. وصدورنا.. تئن من ثقل الوجع.. والسنتنا معقودة.. يتجمد.. بل يقف عاجزاً حائراً السؤال.. ماذا حدث للسودان.. وهل هذا هو الوطن الذي كنا نعرفه.. بوصة.. بوصة.. نعرف شعبه.. فرداً.. فرداً.. نعرف نهاراته.. نهاراً.. نهاراً.. نعرف لياليه أمسية.. إثر أمسية.. نعرف أغانيه بيتاً بيتاً.. نعرف نجومه.. نجماً نجماً.. نعرف.. أفلاكه.. السابحة في المجرات البعيدة.. لا ليس الأمر كذلك.. وليس هذا هو السودان الذي نعرف ولا الوطن الذي كان.. أحبتي.. لقد أثقلني الحزن.. ودهمتني الفجيعة.. وأحزنتني المصيبة.. ولست سادياً.. ولكني أود أن أشرككم في ليالٍ كلها هم وتسهيد.. اصطحبكم في رحلة حزينة ومفزعة.. لنقتسم سوياً.. الاصطلاء بجمر الحزن اللاهب.. ألسنا شركاء في هذا الوطن.. إذن دعوني أنثر عليكم صفحات ولوحات مشتعلة بالدهشة متسربلة بالأسى.. محتشدة بالوجع.. هي «نتف» من أخبار تتساقط يومياً على رؤوسنا، وكأنها صخور من الحمم يقذف بها بركان.. الصفحة الأولى.. غادرنا بالأمس.. عائداً إلى المهاجر بل المنافي.. ضمير الأمة.. ولسان الفقراء ونبض الجماهير.. وشاعر الأمة محمد المكي إبراهيم.. يا للدهشة.. ويا للسؤال الذي يدوي في الأفق.. هل «ده» السودان.. يأتي ود المكي.. يمضي أياماً وأسابيع بين ظهرانينا.. ثم يغادر.. ولا حرف واحد.. عن وصوله.. ولا «شولة» عن مغادرته.. يا لغباء الحروف وبؤس وهزال الكاميرات.. يأتي ود المكي.. ذاك الذي صاغ من عصبه وروحه.. ودمه الأكتوبريات.. يأتي ود المكي.. ذاك الذي جعل «قطار الغرب» ينوح.. ويتوجع عابراً البيد والغابات والصحارى.. وهو يشكو الرهق.. الساكن في عيون أبناء الأرياف.. التي أعشاها التحديق في أفق مغلق ومسدود.. يأتي ود المكي وتأتي معه «خلاسية» تلك المكتنزة ساقها بأطفال خلاسيين.. ويأتي ود المكي.. ويفوح زهر البرتقال وبعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت.. ماذا حدث للوطن.. يأتي ود المكي ويعود ولا يسمع به أحد.. والكاميرات الغبية تلاحق.. أنصاف الموهوبين.. تتابع «الشتامين» تنافق النجوم الزائفة.. البائسة في كل مجال.. يأتي ود المكي.. ويغادر.. والمطابع.. تقذف يومياً بألف صفحة وجريدة.. ولاتتكرم.. جريدة واحدة.. أن تكتب سطراً واحداً.. وإن كان في صياغة مجرمة.. مثل «وصل البلاد محمد المكي إبراهيم» و«بس».. وماذا حدث للسودان.. ثم «معليش» يا ود المكي.. بل هؤلاء لم يسمعوا بك حتى.. وكل هؤلاء لا يعرفون شيئاً عن الخلاسية.. وأغلب هؤلاء ما غفروا لك مطلقاً احتفاءك بالشعب وتلك الأبيات التي تفزعهم حد الخوف أو الموت.. وأنت تنشد.. من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر.. ود المكي.. مرحباً بك.. ومع السلامة.. وماذا يضير الشمس.. إن حجبتها سحابة!!..