ولماذا لا أبكي.. وأنا أرى وطناً يتبعثر.. لماذا لا أبكي.. ووطناً.. أحببته حتى الموت.. ما كان حباً عاصفاً مجنوناً ومتهوراً.. ولا كان عنصرية وشوفينية.. غبية.. وطناً كانت تشرق منه الشمس.. بل تضيء سماءه باهر المصابيح.. لست أنا من كنت مفتوناً مجنوناً بالوطن.. حتى النيل نفسه كان مفتوناً مجنوناً بالوطن.. وأين أنت يا مرسي صالح سراج.. أين أنت أيها الحبيب وردي.. أين دفق المشاعر.. ونبل الحب.. وذاك الغناء العاصف الذي تعدو به الريح.. وهام ذاك النهر.. يستلهم حسناً.. فإذا عبر بلادي ما تمنى.. طرب النيل لديها وتثنى.. ولماذا لا أبكي.. والنهر كان يرقص.. هناك في الحدود وراء تركاكا.. وها هو الآن.. يهدأ.. يغفو.. بل ينام عندما يصل أول أطراف بلادي.. قريباً جداً.. من كوستي.. أبعد ذلك.. الا يحق لي البكاء.. وأوجعكم أكثر.. استمد أحزاني.. من الفضاء الذي يحتشد بالأنباء.. انباءً من قلب خزانة الأحبة الانقاذيين.. ليس فبركةً ولا تشهيراً.. ولا إفتراء.. ولا من خيال معارضة مقهورة.. ولا من جعبة طابور خامس.. ولا هي منشور من حزب فوق أو تحت الأرض.. ونبأ يذهلني.. حد الجنون.. والسودان يطرد من قاعة التصويت.. يحرم حتى من ورقة الاقتراع.. في قاعات.. الأممالمتحدة المهيبة.. فقط لأنه لم يدفع ما عليه للأمم المتحدة.. المبلغ أحبتي هو حوالي ثلاثمائة وخمسون ألف دولاراً.. مبلغ لم تعجز عن دفعه.. جيبوتي ولا هو أعجز الصومال.. تلك التي كانت قبل شهر.. قطعاً.. وأجزاءاً.. وشظايا.. أقرأ الخبر.. والدموع تكاد تحجب الكلمات المتراصة.. بل المتراقصة.. وتجتاحني عاصفة من المهانة.. وأتوهط.. تماماً في قاع اليأس.. ثم غضبة مضرية.. على الدولة.. تلك التي من بين صناعها من سُرقت من خزينته الشخصية.. والبيتية ما يوازي أو يساوي نفس المبلغ.. لا.. كان المال المسروق من ذاك «الأخ» يتفوق على مبلغ الأممالمتحدة.. أنواعاً.. وأشكالاً وألواناً.. كان مبلغاً يشبه تماماً.. الأممالمتحدة.. نفسها.. أليس الأممالمتحدة.. شعوباً وقبائل.. وعملاتها الدولار والدرهم والاسترليني والريال.. ألست محقاً في البكاء.. ووجع آخر.. من نفس الموقع.. من نفس المصدر.. وأطالع صحف الصباح.. ومحكمة.. تصدر حكماً لصالح أحد «الأخوان».. كان الحكم يتحدث عن طرف يجب أن يدفع للطرف الآخر.. أربعة مليار جنيهاً.. تدهمني صاعقة.. ينشل تفكيري.. وجنون يعصف ما تبقى من عقلي.. وتأتي على لساني.. وفي ترديد راتب.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. وحكم المحكمة على عيوننا ورؤوسنا.. والقضاء وكل القضاة.. على أعلى قمة في هاماتنا.. ولكن لابد من سؤال.. وألف سؤال.. من أين تُدفع هذه الأموال.. من خزانة الدولة.. أم من «جيب» المشكو ضده شخصياً.. ثم لماذا.. ولماذا.. ولماذا.. وهل نحن في السودان.. أم نعيش الحياة في النرويج.. أم صرنا أكثر ترفاً وثراءاً من السويد.. ويتواصل جنون الأسئلة.. وهل وطن يعيش فيه هؤلاء الأخوان الشاكي والمشكو ضده يعيش فيه بل يحاورهم فيه مواطن.. ينتظر شهراً من الظهر المقوس والأيدي الراعشة.. والنظر الكليل.. والجسد العليل.. ينتظر شهراً ليحتضن راتباً يبلغ «425» جنيهاً بعد قرار رفع الحد الأدنى للمعاش.. أحبتي.. ماذا تنتظرون من وطن.. تهب فيه هذه الرياح الشيطانية المتمثلة في هذه الأخبار.. ماذا تنتظرون غير «القيامة».. صدقوني أني في قلب الخوف.. في قمة الفزع.. في أعماق الهلع على هذا الوطن الجميل.. الذي يجري فيه لا أرى فيه غير فصول دامية من مسرح اللامعقول.. أسأل الله أن يبقى الوطن سالماً من كل شر.. ولكن هل وطن.. يغادره أبناؤه من شغيلة وشباب وكهول.. وحتى شيوخ.. بعشرات الآلاف.. ليعيدوا مرة أخرى حقبة حزينة من اغتراب مخيف.. هل وطن مثل هذا يسلم من هوج الرياح.. ثم على الملاحيين الذين يقودون سفينة الوطن أن ينتبهوا.. فقديماً قال هاشم الرفاعي.. ومن الرياح ما يكون هبوبها بعد الهدوء وراحة الرُّبان..