غداً (الثلاثاء 31 أغسطس) يكتمل الانسحاب الأمريكي الكبير والرئيسي من العراق تحقيقاً لوعد الرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال حملته الانتخابية من جهة، وتنفيذاً للاتفاقية الأمنية الموقعة بين العراق والولاياتالمتحدة منذ إدارة الرئيس السابق جورج بوش «الابن». ضباب كثيف يحيط بمخرجات الانسحاب وحقائقه.. دوافعه وتداعياته على الساحة العراقية وانعكاساته على دول الجوار وعلى الداخل الأمريكي وعلى شبكة التحالفات الغربية برمتها وعلى الضفة الأخرى من الشرق الأوسط «افغانستان» وعلى محاولات السلام البائسة التي تقودها واشنطن بهدف تنشيط مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال الاسرائيلي. ومع ذلك يذكرني خروج الأمريكان من العراق، في بعض وجوهه الاحتفائية والبروتوكولية على الأقل، بخروج الانجليز -أو الحكم الثنائي- من السودان. فالانجليز دخلوا بلادنا بغزوة عنيفة استخدموا فيها كل ما بين أيديهم من قوة النيران في مواجهة أهلنا فدمروا جيشهم حتى الوقفة الأخيرة شمال أم درمان فقضوا نحبهم وقوفاً كما يموت الشجر باعتراف وينستون تشيرشيل المراسل الصحفي زمن واقعة كرري ورئيس وزراء بريطانيا وخادم الامبراطورية العجوز فيما بعد اعترف تشيرشيل في كتابه «حرب النهر» بأنهم دمروا فرسان الأنصار «لكننا لم نهزمهم»، فمن أهم مظاهر الهزيمة وشروطها هو الاستسلام، وذلك لم يحدث حيث خرج الخليفة وصحبه جنوباً وغرباً منسحباً ومتحرفاً للقتال، فلحقت به بعض مفارز الحملة «ففرش فروته» وانتظر قدره راضياً مرضيا. بينما دخل الأمريكان العراق، بقرار منفرد، خلافاً لإرادة الأممالمتحدة والمجتمع الدولي، وشنوا «عاصفة الصحراء» التي أطاحت بالنظام العراقي بقيادة صدام حسين الذي فقد جيشه بشكل مباغت واضطر للاختفاء حتى تم العثور عليه فاعتقل وبعض رموز حزبه من الأقارب والأصدقاء وحكم عليه بالإعدام وواجه قدره أيضاً بشجاعة غير منكورة. ومع اختلاف سيناريوهات الغزو في الحالتين باختلاف كل عصر وأدواته وآلياته، إلا أنه يمكن رصد ملامح مشتركة في نهايات الغزوتين والانسحاب الإرادي والمبرمج والمحتفى به في الحالتين. فغداً سنشهد في العراق احتفالاً مهيباً بمناسبة مغادرة الجيش الأمريكي للبلاد، مثلما شهدنا، ونستذكر المنظر في بداية كل عام، كيف غادر الانجليز والحكم الثنائي بلادنا وتم رفع العلم من قبل الحكومة المنتخبة والمعارضة في حضور السيدين الجليلين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني وجموع الشعب السوداني التي غصت بها العاصمة يومها تتويجاً لكفاح جيل الابناء الذين أصبحوا آباء الاستقلال الثاني، في الأول من يناير 1956، بعد سقوط الاستقلال الأول الذي أنجزه آباؤهم بالثورة المهدية. لسنا هنا بصدد مقارنة شاملة بين ما يجرى في العراق الآن وما جرى في السودان في أواخر القرن التاسع عشر، لكننا فقط أردنا الإشارة إلى المظاهر الاحتفائية التي انتهى إليها الاحتلالان، والتي تعكس الخصائص والخصال المشتركة بين الشعبين السوداني والعراقي، ومنها الشجاعة والكرم وسرعة الانفعال والاندفاع غير المحسوب مع الاستعداد للتصالح والتعافي والغفران بسرعة أيضاً، وهي على كل حال خصال رصدها الكثير من السودانيين الذين عاشوا في العراق والعراقيون الذين أمضوا بعض الوقت في السودان أو خالطوا السودانيين في الجامعات الأجنبية والاغتراب، مثلما رصدها عرب آخرون عرفوا الشعبين وعاشروهما. أما الانسحاب الأمريكي الرئيسي الذي يكتمل غداً تنفيذاً للاتفاقية الأمنية، فهو انسحاب للقوات الأمريكية المقاتلة من العراق، فخلال الأسابيع القليلة الماضية غادر أرض الرافدين أكثر من 90 الف جندي أمريكي، وبحسب الاتفاقية فإن هناك50 الف جندي سيبقون في العراق لمدة عام آخر تنحصر مهامهم الأساسية في التدريب والإسناد الجوّي الضروري حيث لا يملك الجيش العراقي سلاحاً للطيران، بالإضافة إلى المساعدة الاستخبارية وتقديم العون القتالي عند الضرورة القصوى وبناءاً على طلب من الحكومة العراقية، وستبقى هذه القوات في معسكرات خارج المدن موزعة بين جنوب العراق ووسطه وشماله، لتنسحب هي الأخرى بعد عام وفق ما هو مقرر بحكم الاتفاقية. لكن هل سيكون هذا الانسحاب «الظاهر» والرسمي هو «نهاية الحكاية» في العلاقات الأمريكية-العراقية، أم هو بداية لمرحلة جديدة من «الهيمنة» أو «التعاون».. فكل مراقب يسميها من الموقع أو الزاوية التي ينظر منها. وبرغم ذلك فإن «الانسحاب» في حد ذاته قد وجد تأييداً من بعض العراقيين، خصوصاً النخب السياسية الحاكمة والمعارضة على حد سواء، بينما وجد معارضة من عسكريين كبار على رأسهم رئيس هيئة الأركان العراقية «زيباري» الذي رأى كما رأى مدنيون عراقيون آخرون أن الجيش العراقي لن يكون قادراً على إدارة الملف الأمني لوحده وبدون مساندة أمريكية مباشرة، وأن تلك القدرة لن تتوفر له قبل حلول العام (2020). ويذهب بعض المراقبين المتشككين لدرجة وصف الانسحاب بأنه «خطوة تكتيكية» لا أكثر، استناداً إلى أن الجيش العراقي غير مجهز لحلول محل القوات الأمريكية لا من حيث العدد ولا العديد ولا التدريب، أو التمويل، مستذكرين في ذلك قول الجنرال «جورج دبليو كيسي» في سبتبمر الماضي بأن «هناك كتيبة عراقية واحدة -أقل من الف جندي- هي التي تستطيع القتال دون مساعدة من الولاياتالمتحدة، علماً بأن العراق بحاجة إلى 40 كتيبة إضافية على الأقل كي يستطيع مكافحة التمردات والاختراقات الأمنية والسيطرة على الموقف، في ظل اتساع نطاق التفجيرات والعمليات الإرهابية المتنوعة التي تقودها فلول القوات البعثية وخلايا القاعدة وآخرون لا نعلمهم، الله يعلمهم. وتراوح تقديرات المراقبين أيضاً حول دوافع الانسحاب بين الخسائر الكبيرة التي لحقت بقوات الاحتلال الأمريكي وارتفاع التكلفة المادية والبشرية للوجود الأمريكي في العراق الذي صار بعض المعلقين الأمريكيين يصفه ب«المستنقع» تشبيهاً له بالحالة الفيتنامية في ستينيات القرن الماضي، وتزايد الشكوك بين الأمريكيين حول جدوى نشاط جيش أمريكي بهذا الحجم في العراق مع ارتفاع معدل الهجمات الإرهابية والانتحارية والتي بدأت ب(22) عملية في العام مع بدايات الاحتلال سنة 2003 إلى «198» في العام 2004، وليستمر المؤشر صعوداً لتصل إلى (50) عملية في الشهر الواحد بحلول العام 2005 وهكذا فهم الأمريكيون أن الوجود الكثيف لقواتهم بالعراق هو محفز ومبرر لتزايد النشاط المقاوم أو «الإرهاب» بلغتهم. من ناحية أخرى، فإن اعتماد النهج «التدريجي» في الانسحاب يؤكد أن للولايات المتحدة تحسبات عديدة تمنعها من التفكير في انسحاب كامل وناجز من العراق، فغير أن ذلك سينظر إليه من وجهة نظر أعدائها كانتصار لهم وللفعل المقاوم وهزيمة للاحتلال ويشجعهم على الاندفاع أكثر للعمل على تقويض النظام التعددي الجديد والهش الذي انبنى على انقاض شمولية صدام حسين، فإنها أيضاً في حاجة لضمان استمرار وأمد مصالحها الاستراتيجية ومصالح حلفائها من دول الجوار العراقي التي ستتعرض لهزات كبيرة إذا ما خرج الجيش الأمريكي من العراق منكس الأعلام والرؤوس يجرجر ذيول الهزيمة، وهي ذيول ستتطاول وتتمدد وتلف حول الكرة الأرضية ببحارها وجبالها ووديانها التي لا يخلو إلا القليل منها من وجود أمريكي مباشر أو غير مباشر هذا يضاف -طبعاً- إلى اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس ويريد أوباما وحزبه أن يصب الانسحاب في صناديقهم. على كل حال، انسحب الجيش الأمريكي -ولو جزئياً وتدريجياً- من العراق، وعقبال خروج القوات الدولية من السودان ب«يوناميدها» و«يوناميسها»، مخلفة وراءها سوداناً موحداً وآمناً ومتصالحاً.. هي أمنية.. ودعوة صالحة تستحق أن ترتفع بها أكف السودانيين ضراعةً في هذا الشهر الفضيل، لعل وعسى أن يجعل الله لهذا البلد الطيب أهله مخرج صدق بعد أن أشرف على الهلاك، فهو على كل شيء قدير.