يعمل السودانيون، حكومة وشعباً، في الشمال والجنوب، على تغليب خيار الوحدة، أو هكذا ينبغي أن يكون هدفهم، وذلك بموجب اتفاقية السلام الشامل التي اقتضت أن يعمل الشريكان على تعزيز خيار الوحدة. وفي إطار هذا الالتزام بالاتفاقية تنطلق النفرة لدعم الوحدة التي يقودها الرئيس وقيادات الشريكين. وتعمل هيئة دعم الوحدة برئاسة مولانا محمد عثمان الميرغني وذلك لأن التحدي قومي يتعالى على أي مصلحة دون المصلحة العليا للبلاد. أما خيار الانفصال فهو خيار استثنائي سيحترمه الشمال، إذا كان يمثل إرادة الجنوب، من خلال استفتاء ديمقراطي، لا ترهيب ولا ترغيب في إجرائه.. ولن يكون هذا الخيار نهاية الدنيا، ولا يمثل زلزالاً يطيح بالدولة والمجتمع في الشمال، ولا يشكل قطيعة أبدية بين الشماليين والجنوبيين، ناهيك عن أنه سيقطع التواصل والتعايش بين ولايات التمازج التي تتقاسم المصالح والمنافع بصورة طبيعية وتلقائية تستمر، وربما تدعو الحاجة إلى تعزيزها أكثر فأكثر. الجنوب نال حكماً ذاتياً، ونظاماً كونفدرالياً، منذ إبرام اتفاقية السلام الشامل، وهكذا أرادت له الحركة الشعبية حيث مضت في اتجاه يعزز خيار الانفصال بأكثر من اتجاه الوحدة الطوعية، فسعت إلى قفل الجنوب أمام العمل التنفيذي لقيادات الشمال، مما يذكرنا بوضع المناطق المقفولة أبان العهد الاستعماري، وعلى الرغم من ذلك أنجز الشمال في الجنوب عشرات المشروعات التنموية، خارج قسمة الثروة، وعمل على إرساء دعائم التعايش بين ولايات التمازج، وعلى تأسيس روابط التواصل، بالسكة الحديد، والاتصالات، والطرق، علاوة على ما أعلن عنه من مشروعات البنية التحتية بالجنوب. هذا بينما تدرجت الحركة الشعبية في خطوات الاستقلال عن الشمال بخلاف ما هو مخطط له في الاتفاقية، حتى لم يبق سوى إعلان الاستقلال رسمياً. وأنا أفضل اصطلاح «الاستقلال» على اصطلاح «الانفصال»، وهو استقلال «موقوت» يرتبط بإرادة الحركة الشعبية. وأما الانفصال فهو عملياً لن يكون، حتى في ظل الاستقلال الموقوت، فلا يمكن أن تنفصل علاقات الشمال بالجنوب،لا اقتصادياً ولا اجتماعياً. فهو إذن انفصال سياسي واستقلال موقوت.. وأرى- وهي رؤية خاصة- أن الجنوب سينهي استقلاله الموقوت عما قريب، ويعود جزءاً من الجسد المفصول إلى أصله الواحد، حيث الوحدة الطوعية الحقة، ربما في شكل فيدرالي متفاعل بديلاً عن الكونفدرالية المفتعلة الراهنة. فالمصالح الاقتصادية، دع عنك الوشائج الوجدانية، هي التي ستحول نتيجة الاستفتاء الأسوأ، إلى انفصال سياسي، مع وحدة تكاملية على الصعيد الاقتصادي.. وربما تحسَّب الشريكان لهذا التكامل الاقتصادي في إطار بحثهما لترتيبات الأوضاع بعد الاستفتاء مهما كانت نتيجته، ذلك بأن صوت العقل في اللحظات الأخيرة سيعلو على صوت العاطفة، حيث تتحدث لغة المصالح المشتركة وحدها في عالم أخذت توحد تكتلاته هذه اللغة. فبترول الجنوب لابد أن يستمر ضخه من مواقع الإنتاج، من خلال خط الأنابيب ومصافي التكرير، حتى ميناء التصدير، وذلك كله في الشمال. وهو الخيار الأفضل للجنوب، من حيث التكلفة والأمان، وإلا فسيكون البديل هو إنشاء خط أنابيب ومصافي تكرير في الجوار حتى ممبسا، مع تكلفته الباهظة، ومروره بمناطق غير آمنة، واستغراق فترة إنشائه لعدة سنوات لابد أن يتوقف معها الضخ المنساب حالياً، هذا علاوة على الروابط التجارية التاريخية. رابط عقلاني آخر، هو التعايش السلمي بين القبائل في مناطق التمازج بين الشمال والجنوب، وقد قدم مصطلح التمازج على مصطلح التماس، لما يحمله من تفاعل حي.. هذه القبائل ستظل كما هي، تتعايش اجتماعياً وتتعاون اقتصادياً، فلابد من تنظيم تحركها وتداخلها الضروري لبقائها، وهذا إطار آخر للتكامل «الوحدوي» يستحيل فصم عُراه، لمجرد إجراء الاستفتاء لصالح الانفصال السياسي، زد على ذلك روابط الدم التي تتشعب منذ أقدم العصور. وهناك التعاون الضروري لقسمة مياه النيل، لمصلحة الشطرين، وهناك الجنوبيون في الشمال، والشماليون في الجنوب، فلابد من تنظيم مصالحهم. وقد اقترحت الحركة الشعبية الجنسية المزدوجة والحريات الأربع ، وهي حالة أقرب إلى التكامل «الوحدوي» منها إلى الانفصال السياسي. وهناك من المصالح المشتركة الأخرى التي لا يمكن فصلها بجرة قلم ممن في يدهم قرار الانفصال «السياسي».. هذا ناهيك عن الوجدانيات الطبيعية المشتركة، حيث ما يجمع الشمال بالجنوب أكثر مما يفرق بينهما، الموسيقى خير شاهد، حيث يعزف الشمال والجنوب على سلم واحد، هو السلم الخماسي، بخلاف المنطقة العربية بسلمها السباعي، هذه المشتركات هي أكبر من قرار الاستقلال الموقوت، والانفصال السياسي. والله المستعان..