جاء الى مكتبي جزلاً ومتهللاً وهو يحمل لي بين يديه منتوجه الثاني.. إنه الصديق الحميم أستاذنا الصحفي النقيب يوسف الشنبلي.. وقد حمل المنتوج اسم.. (جنرال بلا نجوم) وهو كتابه الثاني، وكان منتوجه الأول )باسم صحافي بلا حدود(.قبل أن أدلف الى الحديقة الخلفية لكتاب الشنبلي -(جنرال بلا نجوم).. واختار لكم بضع اقحوانات زاهيات من حديقته المضمخة بعطر أزهار الليمون واللارنج، كان لابد لي من الحديث قليلاً عن الصديق الحميم أستاذنا يوسف الشنبلي، ورغم أن المعروف لا يعرف إلا أنني حرصت على تقديم هذا التعريف من باب العلم بالشيء. كانت صرخة ميلاده الأولى عام 1938م في جريف بلده نورى المعروفة في الشمال السوداني، وكانت أمه فاطمة طة (بت الجريف) سعيدة جداً بطفلها الرائع الجميل، الذي اختارت له اسم يوسف تيمناً باسم سيدنا يوسف بطلعته البهية وسيرته النقية.. كان الفتى يوسف لصيقاً بوالدته (فاطمة)، باراً بها، وحفياً بجاراتها الستة اللائي رحلن بعدها بتتابع لافت للنظر.. وكن يجمع بهن ضحى (نوري) الطويل الذي كان يمتد الى قيلولة مفعمة برائحة البن الحبشي والشاي، وكانت أيضاً قد جمعت بينهن قيلولة البرزخ الذي طالت فيه نومتهن في كهف الديمومة. حينما اشتد عود الفتى يوسف.. ضاقت بلده (نوري) بطموحاته العريضة.. جاء الى الخرطوم والتحق بمدارسها وأثناء دراسته في المرحلة الثانوية كان قد اكتشف موهبته الصحفية مبكراً أبو الصحف الأستاذ الراحل محمد يوسف هاشم، فالتقطه ودعاه ليعمل معه في صحيفته (السودان الجديد)، ويواصل دراسته في نفس الوقت، وبعد رحيل ابو الصحف تنقل في العمل بالعديد من الصحف منها صوت السودان- الزمان-التلغراف- الثورة- الأحرار.. وكان قد عمل ضابطاً للإعلام بوزارة الإعلام، ومحرراً بوكالة السودان للأنباء، تحت إدارة الأستاذ عبدالكريم مهدي، ثم حسني حواش، ثم مصطفى أمين، الى أن توج خبراته الصحفية حيث وقع عليه الاختيار رئيساً لتحرير صحيفة (الخبر) وقبلها كان نقيباً للصحفيين السودانيين لثلاث دورات امتدت من عام 1987 وحتى عام 1989م، وخلال هذه الفترة أُختير عضواً في الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب لثلاث دورات، ثم أُختير عضواً مشاركاً في اجتماعات اللجنة التنفيذية لاتحاد الصحفيين العالمي ومقره (براغ) ثم أُختير عضواً مشاركاً في اجتماعات مكتب المديرين التنفيذيين لاتحاد الصحفيين الأفارقة (القاهرة) وقد عمل أستاذنا يوسف مراسلاً لعدد من الصحف العربية منها (المسيرة) بدولة قطر.. (الأضواء) دولة البحرين.. مجلة (الدستور اللندنية) في الخليج وصحيفة (البيان) بدبي. قدم للكتاب الفنان التشكيلي والأديب السوداني المعروف الأستاذ ابراهيم العوام، وقد بدأ العوام كتابته بسباحة تقديمية رائعة، وذلك بجملة وريفة فقال:(الشنبلي في أعماق روحه خضرة نوري الجميلة النضرة، وهو ذو طباع مدنية متحضرة أزاحت ريفيته الى أعماق أعماقه، حيث تبقى في دواخله القيم السودانية التي تظل تتجوهر عند المواقف التي تتطلب ذلك، إذ أن تجاربه الثرة في السودان والخارج، ألبسته طابعاً مدنياً فأصاب مطايب الحياة، والفنان العوام هو نفسه متمدن من الطراز الأول وعبقري، وقد تجلت عبقريته في نحت الأشجار اليابسة في مدخل (الفندق الكبير سابقاً)، فضجت بالحياة والعاطفة وغدت عاصفة من الإبداع اللانهائي وأيقونة للفن الأصيل. كتاب الشنبلي (جنرال بلا نجوم) طبع بمطابع السودان للعملة، وهو من القطع المتوسط، ووقع في (186) صفحة في طباعة أنيقة، واشتمل الكتاب على ثلاثة عشر فصلاً، حيث جاء الفصل الأول بعنوان (مربع المبدعين) وزينه بصورة للشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب يقول الكاتب إن (مربع المبدعين) ضم أحياء نمرة ثلاثة.. السجانة، والديم، واحتضن هذا المربع مئات الأدباء والفنانين والصحفيين، وهذا المربع أيضاً كان بذرة للأحزاب العقائدية، ومبعث الانقلابات العسكرية، ومخبأ للمناضلين، فانطلقت منه ثورة اكتوبر، وليلة المتاريس، وتأسيس أول حزب للشماليين والجنوبيين باسم (الزنجراب).. ومن هذا المربع انطلق أمير العود حسن عطية.. عبيد الطيب.. ومؤخراً جيلاني الواثق، ومن الفنانين الكبار محمد وردي.. عبدالحميد يوسف.. عثمان حسين، ومن الشعراء اسماعيل حسن، ومن الصحفيين عمر كرار النور.. حسان سعد الدين.. قيلي أحمد عمر.. سيد أحمد خليفة.. صالح عرابي.. الدكتور الباقر.. ادريس حسن.. رحمى سليمان.. وكتر الله خير الكاتب في أنه ذكرني في كتابه حيث أشار ومؤخراً حسن الحميدي رائد صحافة المجتمع المدني. أطلق الكاتب على الفصل الثاني عنوان (جنرال بلانجوم) وهو نفس عنوان الكتاب، وقد أطلق صفة الجنرال على الأمير عبدالله عبدالرحمن نقد الله، وروى عن الأمير أن أحد المتحمسين من حزبه، وضع علم الحزب على سارية عربته، فغضب الأمير وأمره بإعادة علم الدولة وأعطاه درساً في قومية الحكم وخصوصية الحزب.. وصفة الجنرال جاءت بحسبان أن الأمير نقد الله كان أقوى وزير داخلية مر على البلاد آنذاك في الفصل الثالث الذي حمل عنوان (كنت معهم في كوبر) تحدث عن الإمام الصادق المهدي وقال كان عنيفاً في الدافوري متسامحاً في السياسة، وذلك خلال فترة الاعتقال في كوبر مع آخرين، منهم نقد الذي رفض الاعتراف بالإنقاذ مقابل إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ومنهم الدكتور بشير عمر وسيد احمد الحسين وآخرون. حمل الفصل الرابع عنوان (صراع حول المشنقة)، وقد احتدم هذا الصراع فعلاً حول المشنقة بين العسكريين المحكوم عليهم بالإعدام إبان حكم عبود بعد، أن ثبتت عليهم تهمة الانقلاب على الحكم، وكان الصراع حول من يعدم أولاً، وهم يعقوب كبيدة الذي كان قد تزعم الانقلاب، وعبدالبديع على كرار، والطيار الصادق محمد الحسن، وعبدالحميد عبدالماجد، الى أن حسم عبدالبديع الأمر بأن يكون ترتيب الإعدام حسب أقدمية الرتبة العسكرية وكان أعلاهم رتبة. تناول الفصل الخامس الذي حمل عنوان شارع القصر وكان يحمل اسم (شارع فكتوريا) وأورد الكاتب المسيرة النضالية لشارع القصر التي بدأت عام 1882م، حيث أعدم فيه الحكم التركي العارف بالله الشيخ عبدالباسط الحاج رابح، وكان ذلك في ميدان ابوجنزير، وفي الشارع احتشدت الجماهير وانتصرت لثورة اكتوبر التي هتفت (الى القصر حتى النصر) وفي الفصل السابع ذكر الكاتب أن افتراس أسد لساعى البريد في دارفور أدى لاكتشاف ثوار جمعية اللواء الأبيض، وتحدث الفصل السابع عن مولانا السيد محمد عثمان الميرغني حديثاً طيباً، وذكر الكاتب أنه سافر مع بعض رجال الدولة الى المانيا في اوائل الستينيات لتدشين أول خط طيران بين الخرطوم وفرانكفورت، وياسبحان الله، وقد فقد السودان الآن خط (هيثرو) عبر جريمة فساد بالحجم العائلي، أما الفصل الثامن فقد اورد فيه حكاية المتسول المليونير وجاء الفصل بعنوان (شحات بدفتر شيكات)، حيث روى الكاتب حكاية المتسول أو الشحات الضخم الجثة الذي تحيط به عشرة كلاب ضخمة.. وأشار الى أن الشحات حينما مات اكتشفت الشرطة آنذاك أنه كان مليونيراً.. حيث عثروا على مبالغ طائلة تحسب بالملايين. تحدث على التوالي الفصل التاسع والعاشر الى الفصل الثالث عشر عن بعض العادات لشخصيات سودانية، ظهرت على السطح منها هاشم العطا ..عبدالسلام ابوالعلا .. الدكتور عبدالحليم محمد، والإمام عبدالرحمن المهدي، واختتم الكاتب سفره الرائع بالحديث عن أكلات لها حكايات لدى بعض الشخصيات السودانية المعروفة.