من الركشة تأخذ الحكمة والتأمل.. قلت لسائق الركشة الشاب «جداً» ما تتخطى أنت قائل نفسك سائق شنو؟!! قال يا عمك: اتخطى زي ما عايز!! توقفنا على جانب الطريق وتدخل من أراد أن يضع حداً لتطاوله وخروجه على الخط المألوف والخطأ ثم الإصرار على الخطأ والمكابرة!! قلت «للحجاز»:أنا قلت له كلمات من باب التنبيه ولا أقول التربية! فأنا في هذه الحالة لست معلماً وهو بشعره «المنكوش» وهذه الهيئة لا تنطبق عليه مواصفات التلميذ النجيب ولا حتى «المهذب».. أخذت مساري في الطريق الممتلئ ركشات وحفراً!! تأملت شوارعنا وأنا أرجع بساعة الزمن خطوات للوراء!! وحينها لم تكن هناك ركشة ولا ازدحام ولا ضجيج!! الركشة ضرورة اجتماعية واقتصادية ووسيلة مواصلات تخدم قطاعاً كبيراً من المواطنين لا يملكون السيارات ولا حتى «اللياقة» لقضاء مشاويرهم القصيرة والحياتية.. وهي كذلك وسيلة معيشية ومصدر دخل،كما نعرف لكثير من الأسر والشباب من حملة الشهادات الجامعية والباحثين عن عمل في سوق «عمالة» مغلق «النوافذ» و«الدروب» أمام السواد الأعظم من أبناء الطبقة الوسطى القديمة!! التأمل يأخذ مساراً آخر.. حاولت أن اتقمص حالة الشاب وأجلس أمام مقود الركشة وأتأمل من «مراية السواق» المشهد من حولي.. نعم لماذا لا تتخطى الركشة كل السيارات التي تفوقها كفاءة وسرعة وقوة في الماكينة!! فقانون التخطي والتجاوز هو السائد وهو الضابط الذي يحكم واقع الحال.. فالتوظيف يسوده منهج التخطي والتعدي.. والقوانين واللوائح والأحكام يتم تخطيها وتجاوزها بكل سهولة ويسر وبقوة وحمرة «عين» بالغتين. التخطي والتجاوز هو سيد الموقف في كل شيء فلماذا لا يتخطى صاحب الركشة ويجري ويجري ويتخطى كأنه يقود صاروخاً أو طائرة نفاثة.. إنه لا يرى أمامه ولا يعرف حاله!! المهم يجري ويجري ويتخطى ولا يهم بعد ذلك النتائج أو حجم الضحايا أو هول الحادثة والفاجعة.. المهم أنه «يتخطى» و«يتمطى». نعم «التخطي» و«التجاوز» يفعله الكبار ويسكت الناس.. البعض أدباً وفضلاً..وأكثرية طمعاً ومحاكاة و خوفاً وقهراً.. فلماذا نثور على الصغار عندما يتخطون ويتجاوزون!!؟ قلت في نفسي لماذا نحمل الركشة أكثر مما يجب والبلد نفسها «ركشة» كبيرة،ازدحاماً وضجيجاً وتخطي وتجاوز وما خفي أعظم؟!.. لا زال الطريق طويلاً وشاقاً أمام المركب للوصول للضفة الأخرى من النهر!! بعد كل هذا الغضب من الركشة وصاحبها أضحكتني ركشة أخرى كتب صاحبها عليها «يا هيثم أنت كبير لكن الهلال كبير قبل أن يلدوك»!!. ألم اقل لكم إن السودان ركشة كبيرة مرة «تزَّعِل» ومرة «تضّحِك»!!