صُدمتُ حد الذهول.. غضبت حد الغليان وتألمت حد البكاء وأنا اطالع اسوأ خبر في عام (2010)، فقد جاء في الأخبار أن محكمة شرطة قد حكمت بالسجن لمدة ستة أشهر مع الفصل من الخدمة والحرمان من الاستحقاقات المالية على مدير سجن كوبر السابق وعلى بعض من ضباطه أيضاً.. ومرد صدمتي وغضبي وألمي هو إنني كنت أتوقع صدور بعض العقوبات في حق بعض من طاقم سجن كوبر الاتحادي، بعد تمكن قتلة قرانفيل من الهروب من السجن، غير أني ما توقعت أن يكون الحكم بالسجن واحداً من الاحكام الموقعة على الاطلاق. تلكم الاحكام التي صدرت في حق هؤلاء الضباط الشرفاء لم تكن متوقعة لأنها كما يرى البعض أجهضت العدالة بتغاضيها عن مبدأ تقدير العقاب، وتناسب العقوبة مع الجرم المقترف، كما أن فيها إهداراً للعدالة من باب التعسف في استعمال الحق.. فمن حق إدارة الشرطة أن تحاسب منسوبيها وأن تشدد عليهم؛ ولكن التعسف في استعمال الحق بتلك الصورة وبهذه الكيفية أمر غير مقبول وقد لايستقيم مع اسس العدالة وقديماً قال الشاعر: موضع السيف في موضع الندى بالعلا مضر كموضع الندى في موضع السيف. إن هذه الأحكام مجحفة لأنها المرة الأولى في تاريخ الشرطة التي يقدم فيها ضابط شرطة برتبة لواء للمحاكمة، ويصدر في حقه حكم بالسجن.. ولماذا؟! لأن هناك مساجين تمكنوا من الهرب من السجن الذي يديره! هل سمعتم في يوم من الأيام أن مدير سجن في إي مكان في العالم قد سجن نتيجة هروب مساجين كانوا تحت حراسته؟! وهل سمعنا حتى بأن هناك مدير سجن فقد وظيفته لهروب مسجون؟ صححوني لو كنت مخطئاً! إن الهروب من السجون أمر طبيعي ملازم لطبيعة السجون والمساجين، إلا أن المشكلة في قضيتنا هذه أن الهاربين هم قتلة قرانفيل الأمريكي، مما يجعلنا نفهم بأن هذا الحكم ذو صبغة سياسية.. وأن هذا الحكم قد صدر لإرضاء «الاخر»، وليس إحقاقاً للعدالة.. لقد جعلوا من مدير سجن كوبر ورجاله الأمناء الشرفاء كبش فداء، في قضية يعلم القاصي والداني تداخلاتها، ومآلاتها، وأبعادها السياسية والعالمية.. لكن هذا الحكم لن يرضي أمريكاو لاغيرها. ولن ترضى أمريكا ولو حرصتم، فنحن نعلم ما تريده أمريكا.. وإن ما تريده دون فرط القتال.. إذن لماذا هذه المسرحية ولماذا هذا العمل الذي لن يغني شيئاً؟ نحن لا ننكر أن هناك إهمالاً قد حدث من قبل إدارة سجن كوبر.. إهمال كان نتيجتة هروب قتلة قرانفيل.. ولكن هل يرقى ثمن هذا الإهمال إلى الحكم بسجن ضابط عظيم من ضباط الشرطة؟! فإذا كانت رئاسة الشرطة بإدارتها القانونية قد فشلت في تقييم الأمرو تقدير الموقف، ولم تقدر رجالها حق قدرهم، وهم بتلك الرتب القيادية، ورضخت وانساقت وراء أهداف سياسية، فمن لصغار الضباط وهم يعملون في مجال مليء بالمطبات والمشاكل القانونية.. كيف يتم سجن ضابط حصل على أرفع الأوسمة بما فيها وسام الخدمة الطويلة الممتازة من السيد رئيس الجمهورية.. وإذا كان وسام الشجاعة يمنع توقيع الحكم بالإعدام على حامله، فكيف لا يوفر وسام الخدمة الطويلة الممتازة الحماية لحامله من السجن في مثل هذا النوع من المخالفات التي لا ترقى الى مستوى الإخلال بالشرف أو الأمانة؛ ولا سيما أن الإهمال قد وقع من مجموعة من العاملين، وليس من المدير نفسه.. فهل كانت المحكمة تتوقع أن يحمل مدير السجن بندقيته ويسير على«الكات ووك» فوق السور ليمنع المساجين من الهروب؟ لو أن مدير سجن كوبر كان قد أدين بالرشوة، أو الاختلاس، أو الإعتداء الجنسي على مسجون لما حركنا ساكناً، لكن أن يسجن نتيجة إهمال إداري فهذا لا يليق، فإنكم بذلك تأخذون بالشمال ما أعطيتم باليمين، فمالكم كيف تحكمون. أما موضوع حرمان الضباط من استحقاقاتهم المالية فهو النكتة الكبرى، ولا أتوقع أن تصدر مثل هذه العقوبة لأنها «شطحة» لا تصدر من محكمة شرطة راشدة، إذ أن الحقوق المالية المكتسبة بطول الخدمة هي ملك لأسرة الضابط، وليس من شأن محاكم الشرطة معاقبة أسر الضباط بحرمانهم من هذه الاستحقاقات. إن السيد وزير الداخلية يعلم تماماً أن إدارة السجون تعمل بأقل من 35% من قوتها المصدقة، فكيف إذن لا يكون هناك تقصير؟ وكيف لا يكون هناك حالات هروب وقوة السجون تعاني من هذا النقص الحاد؟ ومع ذلك يؤدي أفرادها واجباتهم بكل صبر وجلد، ولقد شهدت بعيني رأسي كيف يعمل ضباط السجون رغم عدم توفير الامكانيات لهم، وهم يجرون يميناً ويساراً مسخرين لعلاقاتهم الشخصية لحل مشاكل إدارتهم.. وما مدير سجن كوبر ورفقاءه الشرفاء بمعزل عن هذه المنظومة الخيرة التي اعطت وما استبقت شيئاً، ليكون مصيرهم في آخر المطاف السجن مع القتلة، والمجرمين، والمحتالين وذلك إذا ما حدث تقصير بسبب شح الامكانيات التي توفرها لهم وزارة الداخلية. العدالة لم تتحقق بهذا الحكم الجائر -وأمريكا لن ترضى عنكم- والخاسر هو السودان وإدارة السجون، إذ أن فقدان مثل هذه الكوادر والتضحية بهم بهذه الطريقة لاجل تحقيق أهداف سياسية، أمر محبط للعاملين بإدارة السجون وبالشرطة ككل، وربما يؤدي مثل هذا التوجه إلى القضاء على البقية الباقية من الروح المعنوية وحب المهنة لدى هؤلاء الرجال.. إن لواءات الشرطة خبرات ثرة وقيادات رشيدة، لم تصل إلى تلك المواقع عبثاً، بل عملوا، وناضلوا، وأجتهدوا، وطوروا من أنفسهم، وتسلحوا بالعلم والمعرفة، وحق علينا أن نحملهم في حدقات العيون، لا أن نرمي بهم في غياهب السجون. جاء في واحدة من الدراسات الصادرة عن (kings college) بلندن المركز الدولي للدراسات السجنية أن «إصلاح المؤسسات السجنية يحتاج إلى محفز مثل إنتشار الأمراض أو فضيحة أو إمكانية الانضمام إلى هيئة اقليمية توفر متطلبات حقوق الإنسان أو حكومة ملتزمة».. وبناءاً عليه نأمل أن تكون حكومتنا ملتزمة بحقوق الإنسان، وأن يكون هذا الحكم محفزاً لاصلاح الأحوال المتردية في السجون.. كما نأمل في إسقاط تلك الاحكام الجائرة، التي القيت تعسفاً على رجال شرفاء وأمناء، وأن تتم إعادتهم للخدمة من جديد، فنحن نحتاجهم وهم لا يستحقون جزاء سنمار.. أقيلوا عثرتهم لأن الرحمة فوق القانون، وحتى لا تتحول الشرطة إلى هرة تأكل بنيها.