الزعيم الأفريقي العالمي نلسون مانديلا ،هو أشهر سجين سياسي في القرن العشرين إذ ظل صامدًا خلف القضبان سبعة وعشرين عاماً. حكموا عليه بالمؤبد عام 1964م وأطلق سراحه عام 1991م عندما ازدادت الضغوط الدولية على الحكومة العنصرية التي حكمت جنوب أفريقيا بقوانين تفرقة عنصرية صريحة. ناهض سياسات التفرقة العنصرية التي بدأت منذ 1911م وأعلنت كقوانين عام 1950م. المجموعات الأوربية التي هاجرت إلى جنوب أفريقيا منذ 1652م كونت كيانات منعزلة عن السكان الأصليين السود. بدأ التجمع الأوربي بمجييء الهولنديون ثم الفرنسيون والألمان ثم البريطانيون عام 1800م. من هؤلاء تشكل العنصر الأوربي الحاكم وسموا أنفسم بالافركانرز.أما الأفارقة وهم السكان الأصليون كان أبرزهم شعب البانتو ومنهم الزولو الذين قادوا المقاومة. الفواصل التي وضعها البيض بين المجموعات السكانية أدت في نهاية المطاف أن يستعبد خمسة ملايين خواجة الأكثرية الأصلية التي بلغت عددها حوالي (29) مليوناً من الشعب الأفريقي. هذه المجموعة الأوربية استولت على مقدارت هذا البلد وهي غنية بالموارد المعدنية كالذهب والزراعية. ولم تكتف بذلك بل انزلت التفرقة العنصرية إلى الحقوق الانسانية إلى حدَّ طرد السكان السود إلى الأطراف الفقيرة وحرمانهم من حقوق السكن والتعليم. لم يعد من حق الرجل الأسود أن يخالط البيض في أي مكان حتى في المواصلات والأندية، وإلا أُعتبر مرتكباً للجريمة. كانت صافرات الإنذار تدوي ليلاً في المدينة ليخرج السود إلى أعشاشهم البائسة في أطراف المدينة. هذه السياسات الظالمة كانت هدفاً لنضالات مانديلا. حاربها رسمياً منذ تخرجه عام 1940م. طرد من الدِّراسة عدة مرات حتى أتم دراسته بالمراسلة. وهذه التفرقة كانت سبباً في شقاء طفولته. طرد الأوربيون أباه من منصبه وألقابه وممتلكاته لمعارضة قادها ضدهم. مات والده وهو في سن التاسعة. تبناه الزعيم الذي خلف والده على زعامة القبيلة. في المدرسة البريطانية التي كانت لا تعترف بالثقافة المحلية واستبدلوا اسمه من (دولي هلا هلا غادلا هنرى مفكاني سوا) إلى( نلسون). بعد تخرجه انضم إلى حزب المجلس الوطني الأفريقي الذي كان يدافع عن حقوق السود منذ تأسيسه عام 1912م.بدأ مقاومة منظمة وهو في وظيفة محامي في مدينة جوهانسبرج. اعتقل في الأعوام 1952م ثم 1953م ثم 1956م. في بداية الستينيات، وعندما اشتدت وطأة سيئات الحكومة العنصرية، اضطر مع أصحابه لينهج المقاومة المسلحة، وهو في مقاومتة تلك اعتقل وحكم عليه بالمؤبد عام 1964م. ظل داخل السجن يقاوم بالإتصالات السرية وشحذ همم المساجين، وكتب مذكراته الأولى(طريقي الطويل إلى الحرية) وهرَّبَها عن طريق سجين عربي عام 1976م. عُرِض عليه في منتصف الثمانينيات أن يطلق سراحه مقابل ترك المقاومة فرفض. اضطرت الحكومة العنصرية أن ترضخ لمطالبه فتم اطلاق سراحه في 11 فبراير 1991م. عقب خروجه من السجن تم تعيينه رئيسا لحزب المؤتمر الأفريقي، ثم انتخب كأول رئيس أسود لجمهورية جنوب أفريقيا عام 1994. استلم تجربة الزعماء الهنود أمثال جواهر لال نهر والمها تما غاندي وزعماء المقاومة اليساريين أمثال جيفارا، ولكن كان له خصوصياته.جمع بين أمرين لا يجتمعان إلا في التجارب الفذة وهما: الصلابة على المبادئ والقابلية للتسامح!! ثائر عنيد لا تخطئه الحكمة، تناسق عجيب بين عقل الماكر وقلب النبيل، هذا التداخل المعقد تجده مثلاً في مثل قوله (أهزم خصمك دون أن تجرح كبرياءه)بهذه الخاصية الفريدة استطاع أن يقفز بشعبه فوق الجروح التي تجرعت المظالم قرون طويلة. استطاع أن يسكت الأصوات التي كانت تنادي بالإنتقام من البيض بعد ان أصبحوا أقلية. بل أنقذ البيض من أحقاد تاريخية كان يمكن أن يدفعوا ثمناً باهظاً لها. وبذلك وفر لشعبه الكثير من ويلات الإنتقام المضاد. طالب بكل وضوح عدم تحميل البيض كجنس ذنب العنصريين الذين عاثوا فسادًا في الماضي. كان يؤمن بأن المطلوب ليس فقط تحرير الضحية بل الجلاد أيضاً محتاج إلى تحرير!! لم يكن متطرفاً ولا مفرطاً بل شيئاً بين ذلك. طالب البيض بالإعتراف وطالب السود بالتسامح: كان قومياً دون تعصب!!في تجربته تفاعلت أجواء ملونة ربما لم يتوفر لغيره أبرز تلك الألوان هي:في سن الطفولة تنقل بين طفولة سعيدة يحكي عنها عندما يتكلم في مذكراته عن نساء الأسرة. وعانى أيضاً فترة شقاء بعد موت والده. في مرحلة مبكرة من نشأته حمل بقايا أحقاد تاريخية على البيض العنصريين الذين جردوا والده من أملاكه وألقابه، ولكن مشوار النضال الطويل مع الثقافة التي إكتسبها وتجربة الأعمال الشاقة التي كان يكابدها في السجن كل هذه الأبعاد شكلت فيه كياناً نفسياً فذاً. هذا الكيان النفسي الفذ فتح له أبواباً حكمة جعلت منه رجلاً نبيلاً في نظر العالم، وبها إستطاع أن يقود شعبه في منزلقات المراحل الإنتقالية الصعبة. أدبيات النضال لديه تحمل الكثير من الحكم لا يبلغها إلا متأمل من طراز مانديلا . من تأملاته: العبودية ليست لون بشرة، ولا إنساناً ضعيفاً ،بل هي حالة نفسية!! إذا حكمت شعباً دع النماذج الجيدة في الصفوف الأمامية هكذا يمكن أن تقود دون أن يحسوا بوجودك!! أتحرر في صحبة النساء من عقدي النفسية بطريقة لا أجدها في صحبة الرجال. يجب أن لا يسيطر علينا من لا يحترم ثقافتنا!! أهدافه السياسية كانت تتلخص في : الدعوة القومية، إسقاط الحكومة العنصرية، الديمقراطية، أما وسيلته فقد كانت في: التحرك الشعبي والمقاومة المسلحة. من فقد وقته فقد عقله!! الشجاعة ليست أن لا تخاف بل هي أن تقهر الخوف!! حاجة الظالم إلى الحرية أعمق من حاجة المظلوم!! كيف يكون حراً من لم يحترم حرية الآخرين!! من ضاقت خياراته مات!! الحرية لا تقبل التجزئة!! الفقر الفاحش لا يقل خطورة عن العبودية والعنصرية!! كلما تقدم بي السن أشعر أنني أتفتح مثل الوردة!! أنسوا مساويء الماضي لا جدوى من تأجيج الضغينة!!من غرائب ما يُحكى عنه أنه كان يكن إحتراماً بالغاً للعقيدة الإسلامية لدرجة البكاء، وهو يتأمل معاني القرآن! ورغم أن ثقافته من مدرسة المبشرين إلا أنه احتفى بوالده الذي كان يقاوم التنصير، وربما مواقف الكنيسة التي ساندت سياسات التفرقة العنصرية لعبت دوراً في عدم ميوله للتدين. أعظم تجليات هذا النبل الذي عُرِّف به هو زهده في السلطة. بعد تنصيبه رئيساً لجنوب أفريقيا عام 1995م، اعتزل رئاسة الحزب عام 1997م، ثم تنازل عن منصب الرئاسة، واكتفى بدورةٍ واحدةٍ. ترك منصبه لثابوأمبيكي الذي نعرفه جيداً في السودان.بعد ترك الرئاسة عام 1999م أصبح مهموماً بشؤون العالم الخارجي، ولعب أدواراً في الأزمات العالمية، ثم مارس الفنون كالرسم والكتابة والرياضة. كرمته المجتمعات البشرية بجائزة نوبل، وبسفير الضمير، وسفير النوايا الحسنة، وجائزة رجل الأعمال السوداني محمد فتحي (مو)التي بلغت خمسة ملايين دولارًا! في عام 2007م أزاحوا الستار عن تمثال لمانديلا جنباً إلى جنب عظماء أوربا. كأعظم تكريم له على الإطلاق و هو ما يقولونه الآن: إنه ناضل ضد العنصريين البيض حتى أصبح الآن المنقذ الوحيد للأوربيين في جنوب أفريقيا!.