سياسة التمكين التي خطها دكتور الترابي، عراب تنظيم الجبهة القومية الاسلامية، لتمكين حزبه وأتباعه من مفاصل الدولة الإقتصادية والتنفيذية، كانت سياسة جهنمية لأنها سلاح ذو حدّين: إن أُحسن أستخدامُه فإنه سيقودُ لنجاح الحزب الحاكم في تنفيذ سياسته الإقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن مشاريعه التنموية، ولكن إذا ما أُسيئ استخدامه وتّم تفعيلُه دون ضوابط تحدُّه، أو كوابح تمنعه من الانطلاق الطائش، فإنه يصبح سلاحاً يقطع في غير الاتجاه الذي وُجّه إليه، وهنا مكمن الخطر. عندما نفّذ حزبُ الجبهة القومية الإسلامية، في العام 1989، إنقلابه الذي أسموه ثورة الإنقاذ، كان ذلك الانقلاب كيوم فتح مكة، حيث دانت الأمور بعدها للمسلمين، وأصبحنا نحن طلقاء الخرطوم، وأصبحت الدولة وما فيها من ثروات «غنيمةً» حلالاً بلالاً لهم، يقتسمونها بينهم أين كانوا وكيف كانوا.. ونسوا أنهم ليسوا بالمسلمين الوحيدين في السودان، وأن غالبية السودان مثلهم سواء في الاسلام، غير أنهم تبعوا سياسة «من ليس معي فهو ضدي»، وبدأوا مخطّطهم الجهنمي بتفريغ الخدمة المدنية في كل قطاعاتها من كل من ظنوا أنه لا يصلح للعمل تحت إمرتهم، وإحلاله بأهل الولاء من حزبهم تحت راية «الولاء قبل الأداء»، وقاموا بتصفية كل آليات مراقبة الصرف الحكومي، فتخلّصوا من الهيئات والمصالح التي كانت تقوم بأداء مراقبة الإنفاق الحكومي، مثل مصلحة النقل الميكانيكي والمخازن والمهمات وما إلى ذلك، ولعلّي أذكر بداية سياسة التمكين لأنّني قد تضررت منها شخصيا، مثلي مثل آخرين من السودانيين ، إذ أنني وبعد إحالتي للصالح العام كنت أقوم بشراء منتجات الشركة العربية للدواجن من بيض وفراخ ثم بيعها لبعض المتاجر، ولمتعهد خدمات نادي المكتبة القبطية بالخرطوم، وكان الدخل لا بأس به يقيم الأود ويكسو العيال، إلّا أنّ معتمد الخرطوم أصدر قراراً باحتكار بيع كل منتجات شركات الدوجن بمعتمدية الخرطوم وقتها لصالح، إحدى شركات الجبهة القومية الإسلامية، وهكذا وجدت نفسي مرةً أخرى بلا عمل كريم أسترزق منه، ولم نكن نعلم وقتها أنّ هناك مخططاً يجري تنفيذه في الخفاء إسمه«التمكين»، وظلّت سياسة «التمكين» تجري في الخفاء تحت الشعار الداوي «هي لله»- لا للسلطة ولا للجاه... واستمر الحال حتى دانت لهم كلّ مفاصل وأذرع وأرجل ورؤوس الاقتصاد السوداني، حتى قال السيد الصادق المهدي قولته الشهيرة «الناس ديل دخّلوا الناس الجوامع وهم دخلوا السوق». ولعل واحدة من أسوأ آليات سياسة «التمكين» مسألة نثريات وحوافز أعضاء الجبهة القومية الإسلامية الذين تسنموا المواقع التنفيذية في الدولة من ولاة ووزراء ومدراء ومعتمدين، حيث خُصّصت لهم من النثريات والبدلات أضعاف مرتباتهم من المال العام، يصرفونها كيف شاءوا وأنّى أرادوا، ولم نسمع بمن عفّت يده عن هذا المال الحرام «المحلّل بالقانون» ، غير ثلاثة فقط هم المرحوم العميد محمد عثمان محمد سعيد، ومحمد خير الزبير وزير المالية الأسبق ومحافظ بنك السودان الحالي، وغازي صلاح الدين، فهم قد اشتهروا بين الناس وعُرفوا بعفّة أيديهم عن مال الدولة، واكتفائهم بالأجر الذي يأخذونه عن عملهم المباشر، والآن نجد أن عالم الإسفير يتحدث عن قيادي دستوري كان وزيراً لواحدة من الوزارات السيادية، يغسل ملابسه بمبلغ 2,600 جنيه شهريا من مال النثريات، والسبب وراء هذا المبلغ الفاحش أنه لا يغسل ملابسه مثلنا «بالموية والصابون» ولكنه يغسلها ب«الدراي كلين».. الغسيل وأنا زي الأهبل دايما اقول «الزول ده عندو كم عمة لأنه عمتو دائما بيضاء ونضيفة» ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب، وإلى الآن لم يخرج علينا سيادته بما يفيد النفي لهذه «الجريرة» التي أُلصقت به. في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبينما هو يقوم بتوزيع ما غنمه المسلمون من دولة الفرس، سأله واحد من رعاياه عن تفضيله لنفسه بأخذ ثوبين لجلبابه، بينما بقية العامة من المسلمين يتلقّون ثوباً واحداً فقط!! لم يغضب سيدنا عمر من السؤال، بل شرح بكل حلم وروية لذلك الفرد من الرعية، بأنه لما كان رجلاً طويل القامة ذا بسطة في الجسم، فإنّ ثوباً واحداً لا يكفي لجلبابه، وإن ابنه عبد الله بن عمر قد أعطاه ثوبه يرتقه مع حقّه ليتمكن من اكمال جلباب يستر جسمه، واعتبارا من هذه الحكاية، وبما أنني من رعايا المسلمين في دولة التوجّه الحضاري، التي تسعى لتطبيق شرع الله، فهل لي أن أ سأل ولاة أمري من وزراء وولاة ومعتمدين و... و... عن النثريات المليونية التي يتلقّونها كل شهر فيم أنفقوها؟وكم أعادوا منها لبيت مال المسلمين؟ وكم منزلاً كانوا يملكون قبل تولّيهم رعاية أمور المسلمين؟ وكم منزلاً الآن؟لقد قادت سياسة «التمكين» إلى جريان المال في أيدي القيادات التنفيذية في دولة الإنقاذ فشغلتهم عن أمور الرعية، حتى أصبح لا همّ للعديد منهم سوى جمعه وكنزه وانفاقه على ملذات الدنيا.