غبت لفترة طويلة عن زيارة مدينة بورتسودان الحبيبة الى نفسي، بحكم أنني ترعرت فيها وتربيت وشربت من بحرها المالح مرارا وتكرارا، ونحن صبية نسبح فيه أيام الصيف القاسية والملتهبة، وخاصة إذا كان الشهر هو رمضان المعظم .. وأنا في طريقي إليها الأسبوع الماضي مستقلاً أحد البصات السفرية، خالجتني ذكريات الصبا، ومراتع الطفولة، وأشواق المكان، وفي الذاكرة مرارات المدينة، من شح لمياه الشرب، والرطوبة العالية، وقطوعات الكهرباء المتكررة، تلك هي أزمات تلك المدينة الساحلية- ميناء السودان الأول والأخير- وفي الخاطر حديث زائريها بعد الثورة التي أحدثها الوالي ايلا في طرقها وفي سواحلها.. في هيا نفس الوجوه البائسة التي يقتلها الفقر، ونفس المعاناة التي أعرفها منذ القديم نساء متعبات مرهقات يبعن المساويك، وأطفال منهكون يحملون صناديق البسكويت، والدوم المقشور، والنبق في اكياس صغيرة، لم يتغير شيء وفي سنكات يتكرر المشهد وتتكرر الصورة نفس البؤس والفقر المدقع.. وفي مدينة سواكن توقف البص في نفس مكانه، حيث لم يسفلت موقفه، وإن تسفلتت طرقها ومداخلها وكأنه جسم غريب في المدينة.. والسيناريو لم يتغير يبيعون البسكويت والمساويك والنبق والمناديل... ومساكن هيا وسنكات هي نفسها البيوت المهترئة، التي تنم عن فقر وجوع ومرض، وهي أزمات ولاية البحر الأحمر.. حيث لم أشهد اي تطور على صعيد إنسانها البسيط، والذي ظل يبحث عن الحياة الكريمة منذ أمد بعيد.. وفي مدينة بورتسودان، ومثلما أدهشني العمل الكبير فيها في طرقها وسواحلها، أدهشني وبدرجة أكبر انعدام المياه فيها، تلك المعضلة التي فشل كل الولاة في حلها.. حيث يباع جوز الماء غير الصالح للشرب من عربات الكارو بجنيهين كاملين، وتباع جركانة مياه التحلية المعبأة عشوائياً بجنيهين ونصف، وتانكر الماء الصدئ جداً بأكثر من مائة واربعين جنيهاً.. وما يصرفه مواطنوها في الماء لا يصرفه مواطن في اي بقعة من العالم حتى أصبح توفير ماء الشرب هاجساً ضخماً يؤرق مواطنيها.. أنا أشهد أن الوالي السابق اللواء معاش حاتم الوسيلة وحكومته التي كانت تضم المهندس محمد الأمين كباشي، ووزير المالية الاتحادي الحالي علي محمود، والأستاذ صلاح علي آدم اهتموا بأمر مياه بورتسودان أيما اهتمام وقاموا بإنشاء عدد من محطات التحلية، بل اعتبروا أن حل مشكلة مياه الشرب هو همهم الأكبر.. أذكر في إحدى المرات تهللت اسارير الوالي حاتم الوسيلة وظهر منشرحاً في مطار الخرطوم، وهو يعلن أنه وجد حلاً لمشكلة مياه الشرب في كل الولاية، وبدأ يتحدث عن مشروع توصيلها من النيل عبر مستثمر سعودي وافق على القيام بالمشروع، بشرط أن يوافقوا له بمد السعودية بمياه النيل، بعد أن تصل الى مدينة بورتسودان عبر البواخر .. كان سعيداً جداً هاشاً باشاً وكأنه أزاح حملاً ثقيلاً من على ظهره.. ولكن كانت المفاجأة موت المشروع في مهده، بعد أن رفض المركز الفكرة، وأضحى يتحدث عن اتفاقية مياه النيل التي تمنع مثل هذا المشروع.. وحينما وصل الوالي الحالي ايلا الى سدة حكم الولاية، اهتم بقضايا أخرى وعمل على تجميل وتنظيف الولاية.. اهتم بالتعليم والصحة، وانفق كثيراً في الطرق وسواحل المدينة، ولكنه اغفل مشكلة الولاية الأساسية التي تعاني منها منذ زمن قديم.. صحيح أن ايلا حول البحر الأحمر الى تحفة رائعة الجمال، ولكنه لو كرس كل جهوده في انجاح مشروع توصيل المياه من منطقة ابو حمد الى بورتسودان لنجح، ولأقاموا له تمثالاً في قلب المدينة.. لكنه اعتبر أن المشروع قومي، وأن ينفذ بواسطة المركز.. فاغفل عنه حتى استيقظ يوماً ووجد أن تنفيذ المشروع هو مسألة أساسية لتطوير المدينة، واستيقظ معه مجلس تشريعي الولاية متحدثاً عن ضرورة المشروع بعد خراب مالطا، بعد أن فقد السودان ثلثي موارده المالية بانفصال الجنوب..لقد صرف الوالي ايلا أموالاً ضخمة كان يمكن أن يساهم بها في المشروع الذي أصبح الآن ليس من اهتمامات المركز بعد التصريح الأخير لوزير الموارد المائية والكهرباء أسامة عبد الله، والذي قال إن مشروع توصيل مياه النيل الى بورتسودان أصبح ليس بذي أهمية، وهناك مشروعات أخرى بديلة.وبتصريحه هذا دق آخر مسمار في نعش المشروع الحيوي الذي أجمع عليه كل الخبراء، وتمت الدراسات له بعناية فائقة، واختيرت الشركة المنفذة له منذ سنوات خلت.. وبدأت في وضع آلياته لولا تماطل وزارة المالية آنذاك.