تمر علينا ذكرى رحيل القائد المفكر الشهيد مكي علي بلايل هذه الايام ونحن أحوج الى استلهام المعاني من خلال تحليله العميق وتناوله لقضايا السودان بنوع من التميز الاستباقي للأحداث وهذا ما قادنا الى المطالبة بنشر مقالاً له كان يرى فيه مخرجاً آمناً لازمتنا الوطنية والى ثنايا المقال المنشور يومها بصحيفة الراي العام بتاريخ 25/اكتوبر 1998م. المخرج من التناحر والفوضى وديمقراطية الرئة الواحدة بعد أن فرضت كلمة التوالي نفسها بقوة في الادب السياسي يبدو واضحاً ان مضمونها يتجه نحو التحقق على ارض الواقع بصورة أو اخرى وذلك في ضوء مشروع قانون التوالي السياسي كخطوة عملية في اتجاه الممارسة الفعلية. ونحسب أن هذه المرحلة من التطور السياسي في البلاد مقروءة مع جملة المعطيات على الساحة الوطنية ، تتطلب من الجميع في طرفي السلطة والمعارضة تفكراً جاداً واجتهادات أمينا وحوار جرئياً بعيداً عن غلو منهج الابيض والاسود في فرز المواقف والتبسيط المخل للمسائل الشائكة ذات الصلة بالموضوع. وإذا كان المطلوب فعلاً من إقرار التوالي السياسي الوصول الى ممارسة ديمقراطية حقيقية تؤمن الاستقرار السياسي فإن مسألة إرادة سياسية وتهيؤ مجتمع لمثل تلك الممارسة ،أكثر منها مسألة تشريعات وقوانين وهذا دونما إنتقاص لأهمية التشريعات كوسيلة ضبط ضرورية. وإستدلالاً على ما نقول يمكن الاشارة الى ديمقراطيات فعالة ومستقرة دونما حتى دستور مكتوب كما الحال في بريطانيا، في حين تنتشر نماذج شائهة للديمقراطية رغم وجود التشريعات المنظمة المكتوبة كما الحال في كثير من دول العالم الثالث. والواقع أن الاطراف المعنية إذا تجردت للحق، فإنها أبعد ما تكون عن ترف الإطمئنان الكامل لاي من الخيارات الممكنة في شأن الممارسة السياسية في الظروف الراهنة. وإذ يدور الجدل أساساً في الوقت الحالي حول مدى كفاية التدابير الدستورية والقانونية الجارية لقيام ديمقراطية فعالة، فيجب أن لا ننسى التحفظات الموضوعية على صيغة التعددية ذاتها كخيار مناسب خاصة في ظل الظروف الحالية. وكما نذكر فإن قرار هذه الصيغة من جانب السلطة الحاكمة لم يكن أمراً سهلاً، وإنما شهدت الساحة شداً وجذباً حولها الى حد اقتحام مظاهرات المعترضين لمقر المجلس الوطني أثناء المداولات حول الدستور .كما أن قوى عديدة في المعارضة لا تؤمن أصلاً بالتعددية وليس موقفها الحالي سوى مصانعة وسباحة مع التيار . وبكل الصدق فإن الكثيرين ومنهم شخصي الضعيف يساندون التعددية الحزبية فقط بإعتبارها الخيار الاقل سواء بالنظر الى التحديات الماثلة كما سنوضح لاحقاً. ونسترجع الذاكرة هنا، مقالاً كتبناه عام 1988م بعنوان حكومة الوفاق الوطني سراب بقيعة معترضين فيه على دخول الجبهة الاسلامية القومية مع حزبي الامة والاتحادي الديمقراطي في ما يسمى بحكومة الوفاق الوطني يومئذِ ومما جاء في ذلك المقال أنه لا ينبغي تعليق اي امل على مثل هذه الحكومة في حل مشاكل السودان المعقدة والتي تتطلب حكومة متجانسة من عناصر ذات كفاءة وإلتزام، تسدها قوة سياسة منظمة لها بعد شعبي ومنطلق فكري صحيح وبرنامج عمل علمي وقد كان ذلك حلماً ممكن التحقيق بقيام حكم إسلامي على درجة عالية من العدل والطهر، يكون فيه العطاء قبل الكسب ويتقلص فيه الفساد الى ادنى مستوى وتكون قياداته الرسمية والشعبية اسوة ومثالاً في التجرد والإيثار .وكنا نرى أن مثل هذا الحكم كفيل بحشد اكبر تاييد شعبي حوله مهما كانت الصعوبات ، كسلاح اساسي لمواجهة تحديات البناء في الداخل ومهددات الخارج، وبعد تسع سنوات من حكم الإنقاذ بمساندة الحركة الاسلامية ورغم الإنجازات ، فإن الحلم لم يتحقق كما كنا نأمل ونتوقع. وقد أدت إخفاقات الأداء خاصة لجهة إختلال موازين العدالة الاجتماعية بين شرائح المجتمع وإنحرافات الممارسة الاقتصادية، الى غير قليل من السخط الشعبي. كما أدى ضعف الأداء السياسي بغياب الشورى المؤسسية الحقيقية الى تصاعد الولاءات الاقليمية والقبلية كاطار للإستنفار السياسي. وهكذا لم يعد نهج العزائم خياراً متاحاً او على وجه الدقة ليس ميسوراً لقيادة دفة الحكم والحركة السياسية في البلاد. وبإستبعاد ذلك الخيار ومع ازدياد مخاطر الإستهداف خارجياً والتمزق الاجتماعي داخلياً ، تصبح التعددية بترتيبات معينة افضل الخيارات المتاحة في رأينا، مع قناعتنا الكاملة بأن جملة عوامل ضعف الإنصهار القومي وإنخفاض الوعي السياسي والتخلف الاقتصادي لا تجعل هذه التعددية الحزبية الخيار الأنسب لحكم البلاد. فما هي إذن تلك الترتيبات التي قد تجعل التعددية أفضل الخيارات المتاحة للإستجابة للتحديات الماثلة أمامنا؟. وللإجابة على هذا السؤال نستعرض بإيجاز السيناريوهات الأساسية المحتملة ضمن هذا الخيار. والسيناريو الاول الاكثر احتمالاً بالنظر الى المواقف المعلنة للاطراف ، هو أن تمتنع المعارضة عن الإنضمام للمسيرة السياسية ، أما تشدداً منها جرياً وراء سراب الإنتصار ، أو تشدد من السلطة بعدم التنازلات المعقولة. وفي هذه الحالة سيستمر الصراع الدامي والمدمر بكل ما يحمله من مخاطر على وحدة البلاد. وسيقوم ما يمكن تسميته بدمقراطية الرئة الواحدة التي قوامها حزب المؤتمر كعملاق يشاركه في حلية السياسة أقزام من الأحزاب الصغيرة ، وفي تقديرنا أن مثل هذه التجربة لن تحدث الاستقرار ولن تحتوي الولاءات الجهوية والقبلية المتصاعدة. والسيناريو الثاني والأبعد احتمالاً في رأينا ، يتمثل في إمكانية توصل القوى السياسية الى صفقة لعودة قريبة للتنافس الحزبي على السلطة بعد فترة انتقالية قصيرة . ونظن أن هذا السيناريو لا يقل سوءاً عن الاول. فالأحزاب إذا ما عادت فستعود على الارجح مثل ملوك البوربون دون أن تتعلم شيئاً أو تنسى رغم كثرة ما يجب تعلمه . فظروف اليوم ليست كظروف الأمس، ولا تحتمل الممارسات الحزبية القديمة. واليوم فإن التناقضات حول الهوية والمصالح الجهوية أشد عمقاً والاستهداف الخارجي للبلاد اشد خطراً والاوضاع الاقتصادية والاجتماعية اكثر هشاشة. واي تشتيت للإرادة السياسية في مثل هذه الظروف يعتبر خطراً ماحقاً.