في منتصف سبعينات القرن الماضي، انتدبت من السلطة القضائية، للعمل بمجلس الشعب الثاني، مقرراً للجنة التشريع والشؤون القانونية، التي كان يرأسها آنذاك المرحوم مولانا جلال علي لطفي المحامي. كان مقر المجلس وقتئذٍ، مبنى البرلمان القديم، الذي شهد إعلان الاستقلال في 19 ديسمبر 1955، وهو الموقع الحالي للمجلس التشريعي لولاية الخرطوم. أثناء تجوالي - في يوم عملي الأول -بين مكاتب وقاعات وردهات البرلمان المايوي، مررت على مكتب رقيب المجلس، ولقد لفتت انتباهي عبارات ذات مغزى، خطت على لافتة بارزة فوق الباب، تقول هذا هو مكتب الرقيب فلا مجال للوساطة أو المجاملة أو ... أو ... وبعد الاستئذان، دلفتُ إلى داخل مكتب الرجل الثالث في المؤسسة التشريعية، الذي أدهشني بتواضعه ورحابة صدره وأدبه الجم وفكره العميق. ü وكانت تلك المرة الأولى التي أشاهد وأقابل فيها ،القيادي، والمفكر ، والدبلوماسي، والسياسي ذائع الصيت، والذي تقلد مناصب رفيعة في الحكومة والحزب والبرلمان، كان آخرها عندما التقيته، موقع رقيب المجلس، قبل أن يغادره ليكون محافظاً للخرطوم بعد سنوات قليلة، حيث قام بعمل تاريخي هو إقرار وتنفيذ قانون مكافحة البغاء في العاصمة القومية. ü رقيب المجلس كان بمثابة زعيم المعارضة في إطار نظام الحزب الواحد، وكان دوره يتمثل في طرح وجهات النظر البديلة، والرأي الآخر إزاء السياسات الحكومية، المناط عرضها والدفاع عنها بقيادي آخر هو رائد المجلس، وبكلمات أخرى فإن الرجلين، كانا يلعبان دوري زعيم الأغلبية وزعيم المعارضة في الأنظمة الحزبية التعددية. ü وبالإضافة لمسؤوليات الرقيب في التعقيب على الموضوعات المدرجة في جدول الأعمال وتقديم المشاريع والسياسات والمبادرات الحكومي، كانت له صفة أخرى أكثر أهمية وخطورة، وهي تولي - بحكم منصبه- رئاسة لجنة مجلس الشعب للرقابة الإدارية، وهي آلية شبيهة بالأمبودسمان أو الرقيب الإداري، منصوص عليها في الدستور، ولها صلاحيات واسعة النطاق في تلقي الشكاوى المتعلقة بالأعمال والقرارات الإدارية التي تشوبها شبهات الفساد، أو المحسوبية أو استغلال النفوذ، أو إساءة السلطة التقديرية. ü ولقد اشتهر الأستاذ مهدي، إبان تقلده لذلك الموقع بالحزم والحيدة ورباطة الجأش، وكان لا يسمح لأي من كان بالسعي عبر الدروب الخلفية، أو الأيدي الخفية، للتأثير على مجريات التحقيق أو المحاسبة، ولعل أوضح شاهد على ذلك العبارات التحذيرية التي كتبت على باب مكتبه، لوأد أية محاول من ذلك النوع. ومن الحكايات التي ترددت في هذا الصدد، ثورته العارمة على موظفي مكتبه، عندما دخل مكتبه ذات صباح، ليجد عليه لفافة بها هدايا قيمة لشخصه، أحضرها البعض في غيابه، وكان مقدم الهدايا شخص متورط في دعوى تنظرها لجنة الرقابة، فما كان من رقيب المجلس إلا أن أمر- بعد أن عنّف بشدة مساعديه - بإعادة اللفافة إلى صاحبها، مع اعتذار حازم غن قبولها، وتحذير شديد اللهجة من مغبّة تكرار ذلك السلوك مرة أخرى. ü ورغم تولي مهدي مصطفى الهادي، لمواقع رفيعة يسيل إليها اللعاب، إلا أنه عُرف بالنزاهة، وعفّة اليد، وطهارة النفس، وكان أنموذجاً متفرداً للقيادي النظيف والوطني الغيور. وعلاوة على مناقبه الخلقية، امتاز الأستاذ مهدي بقدرات فكرية عالية، وملكات خطابية، وبلاغية باهرة تستند على خلفية ثقافية وسياسية عميقة، اكتسبهما من خبرته المهنية كدبلوماسي ناجح وناشط سياسي محنّك، وقارئ ممتاز. وبعد انهيار النظام المايوي عقب انتفاضة أبريل 1985، وكان مهدي مصطفى الهادي من القياديين القلائل الذين لم تحم حولهم الشبهات، أو تلاحقهم اللعنات. وعند مجيئ الإنقاذ الوطني، واصل عطاءه الوطني، ولبّى نداء القيادة السياسية للعمل سفيراً للسودان بإيطاليا، حقق بمقتضاه مكاسب كبيرة لبلده، وبعد إعمال قانون التوالي السياسي وفتح الباب للأحزاب السياسية للتسجيل وممارسة العمل السياسي، بذل جهداً مضنياً لإقناع الرئيس الراحل جعفر نميري بالانضمام للمسيرة الديمقراطية عبر تسجيل حزب باسم الاتحاد الاشتراكي، وقد نجح في مسعاه. ü وأذكر في هذا السياق، أنَ الرئيس نميري رحمه، قام بفصل الأمين العام للحزب آنذاك الدكتور عثمان أبو القاسم، وسبب ذلك أزمة سياسية داخل الحزب، إذ لم يكن قرار رئيس الحزب قانونيّاً، لأن الأمين العام وفق النظام الأساسي للحزب، منتخب من المؤتمر العام، ولا يجوز عزله بقرار انفرادي من رئيس الحزب، وسعياً نحو إلغاء هذا القرار لجأ إلينا الدكتور عثمان أبو القاسم، ولقد تبين لنا من الوهلة الأولى، أن الفصل جائر ويتعين إبطاله، بيد أن مشكلتنا في مكتب مسجل الأحزاب،- كانت إجرائية وبروتوكولية أكثر منها قانونية، لأننا كنا بصدد التعامل مع رجل في قامة الرئيس نميري، رئيس السودان16 عاماً، وليس مع رئيس حزب تسجل قبل أشهر قليلة، ولم تكن هناك مندوحة من اللجوء إلى الجل الوحيد القادر على إنقاذ الموقف، مهدي مصطفى الهادي، وبالفعل أفلح الأستاذ مهدي بعد جهدٍ جهيدٍ في إقناع المشير نميري بالانصياع للقانون، وذكره بأن الحال تغير، وأنه لم يعد رئيساً للحزب الوحيد في البلاد. آخر عهدي بالأستاذ مهدي، عندما جمعنا معاً أول اجتماع لمجلس جامعة الخرطوم، بعد إعادة تشكيله قبل عامين، وبعد عدة اجتماعات تغيب الأستاذ مهدي عن حضور الاجتماعات، وبالسؤال عنه اتضحت الحقيقة المحزنة، وهي أنه مريض ويمر بظروف صحية حرجة، أثّرت كثيراً على ذاكرته وألزمته داره. إنني أتضرع إلى المولى القدير أن يرد للرجل -الذي خدم وطنه بإخلاص ونزاهة- عافيته، ولقد آلمني حقاً أن لا يتمكن رمز مثل مهدي مصطفى الهادي من تسجيل تجربته الثرة في العمل العام للأجيال القادمة، فقد كان شاهداً على عصره، وكان لاعباً اساسياً وفاعلاً مؤثراً على المسرح السياسي، والصعيد البرلماني في فترة هامة من فترات تجربتنا السياسية.