عام 1970 كلفت شعبة أبحاث السودان الطيب بإعداد كتاب عن «حياة البطاحين»، القبيلة التي ينحدر منها الشيخ فرح ود تكتوك، وكانت تلك مناسبة سعيدة ومهمة مشوقة استقبلها الطيب بكل ترحاب وحماس، وبدأ -حسب خطة الشعبة- الطواف في مرابض القبيلة بدءاً من أبو دليق وما حولها، ثم أبرق وأبوزليق-المايقوما والحاج يوسف، ثم ذهب إلى سنار وجبل موية ثم أربجي والسديرة وجاب أطراف الجزيرة المروية، وكان كلما سأل الرواة والمحدثين عن أخبار أسلافهم ارتفع اسم الشيخ فرح شامخاً وقوياً. وبعد فراغه من كتاب التراث الشعبي لقبيلة البطاحين، توفر لديه شتاتٌ من المعلومات حفزته لمواصلة البحث في سيرة الشيخ فرح، فتردد على سنار وما حولها ست مرات، وكان في كل مرة يحصل على معلومات جديدة عنه، وانتقل من ثم من مرحلة «الروايات الشعبية» إلى البحث عن الآثار المحفوظة، ولم يخب ظنه -كما قال- فوجد مخطوطات تتحدث عن سيرته، ودوَّنت أقواله، وكان أهمها مخطوط الشريف يوسف الهندي «تاج الزمان في تاريخ السودان» وكذلك مخطوط الشيخ الحسن محمد طلحة بود سقارته -ناحية رفاعة- وأوراق فرح قاسم «كساب الجعليين» أحد أحفاد الشيخ فرح وأكثرهم حفظاً لمأثوراته والذي أطلعه على الوثائق المهمة التي كانت بحوزته. ثم لجأ الطيب فيما بعد إلى المكتبة ليقرأ عن أخبار الشيخ لدى «هللسون» في مجلة التاريخ «السودان في رسائل ومدونات -Sudan Notes and Records- ولدى نعوم شقير «جغرافية وتاريخ السودان» وعبد المجيد عابدين «تاريخ الثقافة العربية في السودان» وكتيب أبو القاسم محمد بدري عن الشيخ فرح، بالإضافة طبعاً لما أورده صاحب الطبقات عن سير الأولياء والصالحين. طرافة سفر الشيخ فرح ود تكتوك، الملقب ب(حلال المشبوك) تنبع من طرافة قصة الشيخ فرح وتميزه عن شيوخ عصره وأسلوب حياته ونهجه في الحديث والمناصحة ولغته المسجوعة في إسداء النصائح والإرشاد، وسخريته اللاذعة من البدع والجهالات والضلالات التي كانت تسود عصره، وثقافته المتجاوزة لمجايليه ومعاصريه من أهل الذكر والصلاح، واعتماده على العمل اليدوي والكسب الحلال والإعلاء من شأنه، ونبذ الاسترخاء وانتظار الهدايا والعطايا من الحيران والمريدين والأمراء والحكام كما كان يفعل «شيوخ» ذلك الزمان، الذين كم أعابوا عليه عمله وكدحه ورأوا فيه تهديداً لمجدهم وأحوالهم القائمة على تسخير الغير باسم الدين طمعاً في بركاتهم وقدراتهم الروحية الخارقة. يأخذنا الطيب، على مدى أكثر من مائة وعشرين صفحة في رحلة لطيفة مع الشيخ فرح ود تكتوك «حلال المشبوك»، في مزيج متداخل من الرجز والشعر والرواية. فيحكي لنا قصة لقبه «حلال المشبوك»، التي صارت مثلاً حتى اليوم يتداوله الناس، وكيف أن الأمير «أونسة»، أحد حكام الفونج، الذي أهداه «الشكرية» جملاً أعجبه غاية الإعجاب فأصبح يطعمه بكل ما لذ وطاب -بما في ذلك اللحم والتمر واللبن- وخصص فرقة كبيرة من أتباعه للعناية به، حتى بلغ به الأمر أن طلب من «الفقرا» أن يعلموا جمله القراءة والكتابة ما داموا يستطيعون إتيان الكرامات والخوارق وتوعدهم بسوء العاقبة إن لم يفعلوا. وعندما أسقط في يد «الفقرا»، لجأوا للشيخ فرح في «حلة الحجيرات»، فتبرع الشيخ فرح ب«حل الشبكة» مع الأمير أونسة نيابة عنهم، فطلب من الأمير أن يعطيه أربع سنوات لتعليم البعير، وهي المدة المقررة لتعليم الطالب القراءة والكتابة، فقبل الأمير أونسة شرط الشيخ فرح، وقال قولته المشهورة «تمضي السنوات الأربع، وينفذ القدر: إما في الأمير، إما في الفقير، وإما في البعير»، وحدث ما توقعه الشيخ فهلك الأمير ولحقه بعد عام البعير وسلم الفقير الذي هو الشيخ فرح. وفي رحلة الطيب مع الشيخ فرح نقف على الكثير من الأحداث والأقوال والشخصيات، التي لا يزال السودانيون يرددونها و يذكرونها، كقصته مع بنته وزوجها وكيفية حل الخلاف بينهما -قصة إبريقه «الركوة» التي كسرها عنوة وبكى عليها لأنها اطلعت «على عورته» ولا يريد غيرها- وقصة ود أب زهانة، الثري المفلس وصرفه البذخي ومثله السائر «الدين في الكتوف والأصل معروف»، وجملة من الحكم والفراسات المنسوبة إلى الشيخ فرح، وفصلاً كاملاً عن شعره الرصين من مثل «يا واقفاً عند باب السلاطين.. أرفق بنفسك من هم وتحزين» وفي «الدهر» ونوائبه وفي «الزوجة المثالية» وفي فضائل الصبر والكثير من أغراض الشعر والنصائح الموزونة المقفية. من لم يقرأ الشيخ فرح ود تكتوك عند الطيب محمد الطيب فقد فاته الكثير!