كثيراً ما تتاح لنا فرصة لتقديم يد العون أو المساعدة في اي صورة من صورها ومهما كانت متواضعة وضئيلة فهي تدخل من باب الرحمة والرأفة والفضل بين الناس والحقيقة ان من بين العباد أناس مختارين إختصهم الله لقضاء حوائج الناس حببهم في الخير وحبب الخير فيهم، كما يوجد أناس ايضاً بعيدين كل البعد عن التمتع بنعمة العطاء والتي تدخل الفرحة الغامرة في القلوب، وتعمل عمل السحر في دواخلهم الطيبة، فالسعيد من ينتهز فرصتها اذا كان قادراً ومستطيعاً ولكن بدون تذمر وعدم رضا حتى لا يجعل هذا العمل الجميل يأخذ طابع المن والأذى. القاريء العزيز.. لقد مررت بهذه التجربة الجميلة وكم كنت راضياً عن نفسي بل وفي قمة سعادتي ولكن تدخل عدو الخير وهو الذي يعرف جيداً كيف يجيد عمله فهو الذي إستطاع ان يخرج أبونا آدم وأمنا حواء من الجنة فضاع مني الأجر، في غفلة الضعف البشري انه موقف مازال عالقاً بذهني. أرجع بالذاكرة بعيداً بعيداً حقاً إنها ذكرى طواها الزمن ولكن وجب الإفراج عنها علها تريحني فالإعتراف بالذنب فضيلة. في عام 1968 حضر لي أحد الأشخاص وكان مشهوراً بإبتسامته وضحكاته الرنانة بسبب وبدون سبب أوقف عربته أمام دكاني!! وبعد التحية والسلام وكلام المجاملة المحفوظة قال لي سوف أترك عربتي الهلمان تحت نظرك كما أن لدَّي الرغبة في بيعها بأسرع فرصة لأنني في ضائقة مالية والمبلغ 600 جنيه بعد عشرة دقائق حضر شخص آخر وكأن الله أرسله، عرضت عليه العربة ب700 جنيه وافق على الفور. تمت المبايعة على ورقة عادية مشفوعة بشاهدين وبعد ان ذهب المشتري قال لي البائع طبعاً المائة جنيه الزيادة من نصيبك وتستحقها أنت فقلت له شكراً يا أخي فأنا عندما بعتها لك بهذا الثمن لم أكن أسعى وراء مكسب مادي أو كما يقال سمسرة كل ما في الأمر أن الله يسر لي ان أكون واسطة خير لنعمة اكثر أتتك فوق ما تمنيت على سعرها الذي حددته فأنا لا استحقها ولا احللها على نفسي. شكرته للمرة الثانية وذهب الى حال سبيله فرحاً مغبوطاً. مضى على هذا الأمر عشرة أيام فقط كنت في أمس الحاجة لعدد لستكين «اطار خارجي وداخلي» لعربتي الكورتينا موديل 1964 والتي كان ثمنها وهي جديدة من الشركة لا يتعدى 684 جنيه ويمكن شراؤها بالتقسيط المريح. علمت من الاخوة ان صاحبي والذي كنت وسيط خير في بيع عربته قد ترك في أربعةإطارات على رهن البيع رأيته قادماً نحوي وبعد التحية طلبت أن أشتري منه إطارين والذي كان ثمنه لا يتعدى 18 جنيه فقط ولكنه اعتذر بطريقة ظريفة ولطيفة وجميلة وبكلمات عاجزة غير مرتبة وانه وعد بها شخص آخر والحقيقة تألمت كثيراً لهذا الموقف المضطرب من جانبه وحتى تهدأ نفسي ولا أكون قد ظلمته ربما يكون كلامه صحيحاً وقد وعد بها شخص آخر. والحقيقة كنت ما بين الشك واليقين فيما قاله لي، عندها تدخل عدو الخير وزرع الشك في نفسي وكما نعلم ان الشك من أسوأ أنواع السموم على الانسان، وفي لحظة من لحظات الضعف البشري كلفت احد معارفي للذهاب الى دكان صاحبي هذا وبالفعل أحضر لي الإطارين في أقل من ربع ساعة وبمبلغ 18 جنيهاً فقط مما جعلني أحس بحزن عميق فقد خسرت الرهان مع نفسي اذ كنت امني النفس ان يكون كلامه صحيحاً حتى لا يؤثر هذا الحدث على صورته الجميلة في نفسي فهو الرجل الضاحك والباسم دائماً فسرحت بخيالي اذ كان يمكن بالمائة جنيه التي تنازلت عنها حباً وكرامة شراء اكثر من تسعة اطارات تذكرت في تلك اللحظة عندما كان يتكلم ويعتذر بتلك الإبتسامة الجميلة تذكرت المثل السوداني الجميل المعبر والساخر، والذي يحكي بوضوح صفة صاحبي هذا، يقول المثل «المرايا» لمن لا يقضي الغرض وغير هميم «ما قضاي غروضي لاكين بفر بي سنو.. والمزعوط ما بطير مثلاً قديم عارفنو.. وسكين البال ما بقطع قدر ما تسنو.. فوضو أمركم لي الله يا الراجنو..» القاري العزيز.. عندما إسترجعت تلك الأحداث وعدم رضائي لما حدث يعني بوضوح تام أنني فقدت أجري فكان يجب ان أرى الجانب الطيب من الآخرين حتى وان لم تتوفر فيهم هذه الصفات. «وضاع الأجر ايضاً» موقف آخر لأحد المساكين الذين يتكففون الناس في الطرقات أتى لصاحب دكان كان يجلس أمام دكانه وسأله شيئاً لله، قام صاحب الدكان نشطاً فرحاً ليحضر له ما تيسر بينما جلس المسكين على الكرسي منتظراً العطية الموعودة المتمثلة في قطعة صغيرة من القرقوش أكل صاحبنا المسكين القرقوشة جلوساً وصاحب الدكان واقفاً بجواري في انتظار تحركه لكي يجلس هو عندها نظر اليه المسكين وقال له جيب لي كوز موية بارد، بعد ان شرب كوز الموية لم يتحرك ايضاً وظل جالساً مسترخياً فقال له صاحب الدكان بطريقة لا تخلو من السخرية الضاحكة، اها يا حاج نجيب ليك تاني كباية شاي؟ رد عليه المسكين وقال له الشاي محتاج ليهو شديد بس لسه ما فطرت، أثارت هذه الكلمات حفيظة صاحب الدكان فقال له أنت قايل الدكان دا فاتحنو «رحمتات» وبهذه الكلمات أضاع أجره في القرقوشة وأجره في كوز الموية وحتى أجره في جلوس المسكين على الكرسي، يبقى سؤال واضح وصريح «المسكين منو؟» لقد ذكرني هذا الموقف تلك الحبوبة الطاعنة في السن وهي من السائلات خفيفات الظل دخلت معها في محاورة جميلة دلت على سرعة بديهيتها وكان ذلك في آواخر الخمسينيات، طلبت مني شيئاً لله فأعطيتها ورقة نقدية في ذلك الزمن السحيق لا اتذكر فئتها وكانت الورقة مقطوعة على نصفين ولكنه قطعاً ليس كاملاً ولم أنتبه لحالتها أمسكت الورقة وفردتها بحرص شديد، ثم قالت لي دا شنو «بنطلون» فاعتذرت لها على الفور ولكنها لم تقبل الإعتذار وهاجمتني بقولها أنت يا «فطسوني» لم أعرف ماذا تعني بفطسوني ربما تكون كلمة دلع أجهلها وربما يوفق القاريء العزيز لمعناها أفضل مني، قالت لي أنت الورقة دي مديتها لي أنا ولا مديتها لي الله اذا كان مديتها لي أنا بقبلا منك أصلو أنا مسكينة ومقطعة ذي ورقتك دي وكان مديها لي الله تكون دي «قلة أدب» واعتذارك ما بفيد وربنا سمح ما بيدهو الورق المقطع فاهم ولا ما فاهم، ولم تبخل علي بدرس في الأخلاق قلت لها معليش خلاص إنتظريني هنا أجيب ليكي غيرها وبالفعل قامت بإنتظاري فأحضرت لها ورقة جديدة فقالت لي كدا تمام طيب وين «حق الإنتظار» فقلت لها مداعباً خلاص أعفي لي حق الإنتظار ولكنها أخذت الموضوع بجدية وقالت لي أعفا ليك مؤقتاً لامن نتقابل تاني والحي بلاقي «الشغل شغل وأنا ما بلعب فيهو» تفارقنا وشاء القدير ان أقابلها مرة اخرى بعد فترة ليست بالقصيرة فتذكرتها أسرعت إليها وقلت لها مداعباً، هاكي يا حبوبة حق الإنتظار إنشاء الله تكوني متذكراني فقالت لي وبذكاء شديد «حق الإنتظار أنا عفيتو ليك بس هسه أديني حق الله دا أهم لي وأنا ما بجامل فيهو» أدخلت يدي في جيبي فلم أجد غير «فريني» يعني قرشين في ذلك الزمن السحيق، ترددت كثيراً خوفاً من ان تدخلني في المحظور من كلمات السخرية مرة اخرى كما ان ليس من الحكمة ان أستحي من إعطاء القليل فالحرمان أقل منه توكلت على الله واعطيتها الفريني، عندها نظرت لي نظرة عجيبة لم أعرف معناها وقالت لي «إنت لما تموت داير تمشي وين» قلت داير أمشي الجنة فقالت بنبرة ملؤها السخرية الضاحكة داير تمشي الجنة بي فريني «فرينيك دا يا دوب يوصلك الموردة».