أخي القارئ الكريم: أكتب إليك وقد انقضى رمضان وحل العيد.. كل عام وأنت بخير.. ويقدر الله لي أن أشهده في أرض مصر.. هذه المرة.. بعيداً عن أرض الحرمين ورمضان الحرمين الذي بدأت أحدثك عنه ولقد علق بعض الظرفاء فقال: إن الشيخ قد استبدل دين الحرم بدينارات الهرم.. والمسافة الحسية والمعنوية بين الحرم والهرم هي المسافة بين الحاء «في أول الأبجدية» والهاء في آخرها. ويعلم الله ما شغلني عن آفاق الحرمين شيء وهانذا أعود فأواصل تلك الخواطر الجياشة وأنا جالس في صحن المسجد الحرام مشدود.. إلى ظاهرة الطواف متأمل في هذه الملايين التي تدور حول هذه الغرفة المقدسة وأحاول ربط الحاضر بالماضي.. بدعاء سيدنا إبراهيم. وتفيض المشاعر.. وكان ميلاد هذه القصيدة «أعراس الروح» وهي أحدى قصائد ديوان «أنفاس العشية» وهي تبدأ بالمقطع الأول: شددت رحلي للبيت العتيق عسى تحط عني أوزار ثقيلات وبت ضيفاً بباب الله ملتجأ عسى تهب على قلبي البشارات وكعبة الله تزهو في مباهجها تحيطها من جلال الله هالات تقاطرت زمر الحجاج واحتشدت وهم صنوف والوان شتيتات فالطائفون لهم عج وتلبية والساجدون لهم همس واخبات والأصفياء ببطن الحجر قد عكفوا لهم دوي وتسبيح وآهات جاءوك يا كعبة الرحمن خالقهم مكبرين وتعلوهم ضراعات بعد القبول كساهم ربهم حللاً من اليقين وعمتهم تحياتُ ثم يرحل صاحبكم بعد أن قضي أياماً بمكة ميمماً شطر المدينة «طيبة» في رحلة كلها شوق وتحنان.. وازمعوا السير من دار الكريم ضُحى تلقاء طيبة تحدوهم صبابات شدوا الرحال لدار المصطفى عجلا تسوقهم للحمى همم رفيعات لاحت من البعد والأشواق تحملهم مشارف النور وانطوت المسافات وقد حططت رحالي في رحابكم هي الديار وكل الكون اشتات هي السكينة في درب الحياة أخي وهي الضياء إذا عمت دجناتُ مواكب الذكر والتهليل قد غمرت ساحاتك الغر فاهتزت سمواتُ والحور والملأ الأعلى قد ابتهجوا عليهم من جمال الله آيات ثم ينتقل صاحبكم إلى مناجاة مع سيد الخلق واعتراف.. يا سيد الخلق إنا مثقلون وقد هاض الجناح وصدتنا جهالات نشكو ذنوباً ثقالاً ما يخففها إلا تكرم ربي والشفاعات وقد نزلنا ضيوفاً في حماك عسى نجد القبول وتغمرنا السعادات جاءوك يا رحمة الرحمن تملؤهم مشاعر وأحاسيس خفيات فأنت أولى بهم يا سيدي قسماً كذاك نصت من الترتيل آيات يبادلونك ود الحر لو ملكوا ودون شأوك آماد بعيدات والروضة الرحبة الفيحاء موئلهم هي الفراديس والدور الرحيباتُ ويمضي صاحبكم فيكشف عن خبايا نفسه وآفاتها ويعمل على مصارحتها.. وبين جنبي نفس قد تملكها حب الحياة وأغوتها الضلالات كلت عن السير للمولى وما ظعنت وعطلتها تضاريس عصيات لكن رحمة ربي لا تضيق بمن يأتي حمى الله تغمره الرجاءاتُ ربع المدينة لا تنفك تطربني تلك الأماسي وهاتيك العشياتُ قد عاد قلبي حياً بعد غفلته وأيقظته تباريح شفيفاتُ وعادت النفس للماضي وخالطها سر رقيق وحفتها كراماتُ تبيت في كنف الرحمن تكلؤها يد العناية سحاً والهداياتُ ويوغل صاحبكم في دهاليز نفسه الخربة.. ويمارس معها نوعاً من أدب المكاشفة ويردها إلى أصلها «الطين والزبالة».. ويستعرض كيف نسيت نفخة الروح الإلهي بها.. تقلبت على الطبيعة الطينية وذلك يعالجه المقطع التالي ليختم به هذه التأملات ويسمي نفسه «أسيرة الطين».. ويلملم به أطراف هذه الخواطر.. أسيرة الطين والأيام مدبرة كيف الفكاك وقد وهنت إرادات اتذكرين معان طالما لمعت بين الحنايا وغطتها سحاباتُ ماجت سراديب نفسي بعد ما سكنت عهداً طويلاً وغالتها الجناياتُ قد أثقلها معاني الطين فارتكست من ظلمة الحمأ المسنون تقتاتُ وأنكرت نفحة الروح الزكي بها وداخلتها رعونات وآفاتُ ما عاد يشغلها التحنان للوطن الأم القديم ولا الدور الزكيات يا ليتها ملأت عزماً يحركها ومازجتها فيوض أقدسياتُ وليتها بعثت من بعد غفوتها وعطرتها الترانيم الشجياتُ فأرسلت لحنها العذري منسكباً وعرّشت في مغانيها الفيوضاتُ وفجرت صخرها الصلدي فانبجست منها عيون وأنهار معيناتُ أخي القاريء: هذه خواطر عنت لي.. والزمان أخضر غض والعواطف جياشة.. ولي عودة حول هذه المعاني. القاهرة 6/شوال/1431ه