نعيب على صحافتنا تقوقعها في الشمال والحديث عن خيار الوحدة الجاذبة جل الأخبار والحوارات في صحافتنا الوطنية تدور هذه الأيام حول الاستفتاء المرتقب في جنوب السودان، الكل دون استثناء يكتب حول هذا الموضوع الحيوي المهم.. كأن هذا الاستفتاء هو وليد الساعة ولم يقرر قبل خمس سنوات. الصحافة المتمركزة في الخرطوم لاتزال تناقش هموم الوطن.. كأن هذا الوطن يتكون من مجموعة جزر متفرقة ومعزولة يصعب الوصول اليها، المشكلة ليست في قصور الإعلام عما يدور في جنوب السودان فقط.. وإنما هناك تقصير يبدو أحياناً متعمداً في الوصول إلى بؤر الأحداث التي انتشرت في كل أركان الوطن، هناك أيضاً سطحية في مناقشة القضايا المحورية.. حيث أننا يجب ألاَّ نعمم فأننا نقول إننا لا نشك في أن هناك أقلاماً مهمومة بهموم الوطن، وأن هناك صحفاً لا نشك في وطنيتها، ولكن المشكلة الأساسية في رأيي هي في الإمكانيات المادية التي تحول دون التواجد المستمر في مواقع الحدث.. لأن من أهم مهام الإعلام أن يكون متواجداً.. أو يستطيع الوصول بأسرع ما يمكن لموقع الحدث ساعة وقوعه.. لأن مهمة الصحافة ليست في نشر الخبر، وإنما أيضاً في استخلاص النتائج التي قد تترتب عن ذلك الحدث، وللأسف هذا ما تفتقر اليه معظم صحفنا السودانية.. القارئ للصحف يلاحظ أن معظم ما يكتب من مقالات أو حوارات أو تحليلات إنما يعبر عن وجهات نظر شمالية مليئة بالأماني والعواطف الداعمة للوحدة. صحفنا حتى الآن لم تستطع أن تعبر عن الرأي الآخر.. لم تستطع أن تنتقل بهذه القضية إلى الجنوب لتتعرف على رأي الجنوبيين أنفسهم، وليس بعض الجنوبيين المقيمين في الشمال، الذين يتاجر معظمهم بقضية الجنوب.. الدولة نفسها قد فطنت للمشكلة الإعلامية المتمثلة في توزيع الصحف بالجنوب، فأعلنت عن تكفلها بالترحيل المجاني للصحف.. ولا شك أن في ذلك خدمة كبيرة للصحافة الوطنية، التي تعجز امكانياتها المتواضعة عن تحمل التكلفة الكبيرة لترحيل الصحف للأقاليم كلها وليس جنوب السودان فقط. إن مشكلة الترحيل قد أعاقت إلى حد كبير انتشار الصحف.. فضعف التوزيع وقلةالعائد المادي.. وقد أدى ذلك لانهيار عدد كبير من المؤسسات الصحفية التي عجزت عن سداد تكلفة الانتاج.. وقد أدى ذلك لتشريد أعداد كبيرة من الصحفيين والفنيين. هناك وجه آخر لمعاناة صحافتنا.. وهذا الوجه يكمن في عدم قدرة صحفنا على فتح مكاتب لها في الأقاليم.. خاصة في المواقع الملتهبة الغنية بالأحداث. ولأن شئ خير من لا شئ، فإن بعض الصحف التي تبحث عن المصداقية وتقديم خدمة مميزة لقرائها، فإنها تعمد لارسال بعض محرريها لتغطية أحداث معينة، ولكن الغالب أن تكتفي معظم الصحف الكبرى بمراسلين يقيمون في تلك المناطق، وهذا ما أضعف التغطية الإعلامية. يعتبر السودان خاصة في السنوات الأخيرة- بؤرة لأحداث مهمة.. ولهذا تتسابق الصحف العربية والخليجية ذات الإمكانيات الضخمة إلى فتح مكاتب لها في السودان، لتتابع من خلال محرريها مجريات الأحداث، وفي سبيل ذلك، فإنها تغدق عليهم ليبذلوا المزيد من الجهد ولينفردوا بالحوارات والأخبار المهمة.. المشكلة أن الدولة لا تستطيع أن تدعم هذا الكم الهائل من الصحف.. وإن فعلت فإنها تنتظر موالاة الصحف لها، وهذا يعني تبعية الصحافة للدولة وفقدانها لقدرة الفعل الحر.. لهذا فإن المؤسسات الصحفية تحاول أن تعتمد على مواردها لتكسب المصداقية ولتكسب احترام القراء. لقد كانت الصحف في السابق تعتمد على وكالات الأنباء، حين كانت السماوات مغلقة والمراسلون قلة.. أما الآن فإن الأخبار قد أصبحت متاحة للجميع من خلال السماوات المفتوحة، ووسائل الإتصال المتاحة مع كل أنحاء العالم.. لهذا لم يعد الخبر هو المهم وإنما المهم هو تحليل الخبر! المهم هو الوصول إلى مكان الحدث لمعرفة خلفياته وتفاصيله، ومن ثم تحليلها وتقديمها للرأي العام. إن من يقولون بانفصال الجنوب، إنما يتاجرون بالقضية، ويتحدثون عن رأي عام ناقص لأنه رأي الصفوة.. ومن يتحدثون عن خيار الوحدة فهم أيضاً يحلمون.. الحلم المشروع باستمرار السودان الواحد. لهذا فإننا نعيب على صحفنا تقوقعها هنا في الشمال والحديث عن خيار الوحدة دون بذل أي جهد لفتح مكاتب لها في جنوب السودان ومتابعة الأحداث من مواقعها. نعلم أن هناك مصاعب.. وأن هناك تضييقاً من حكومة الجنوب على الإعلام الشمالي، ولكنها في النهاية مضطرة لفتح النوافذ، طالما أنهم يتحدثون عن الديمقراطية وينادون بها. لقد أزف الوقت ودنت ساعة الحقيقة.. حتى أن معسول الحديث عن الوحدة الجاذبة لم يعد يجدِي، إنما أصبح المهم أن يكون خيار التصويت حراً ونزيهاً.. حتى يستطيع المواطن الجنوبي أن يقرر رأيه بحرية.. فإن أراد الوحدة فالسودان هكذا.. لازال بلداً موحداً.. وإن أراد الانفصال فليكن انفصالاً بإحسان وجيرة عامرة.. بالمودة والمصالح المشتركة.. هكذا يبقى أن نقول أن القضية لم تعد تحتمل المتاجرة والتلاعب بالمشاعر الوطينة، لأن هذا الخيار المطروح لم تطرحه الحكومة فقط باتفاقها المشهود مع حكومة الجنوب، إنما توافقت عليه كل القوى السياسية من حكومة ومعارضة.. وإذا كنا فعلاً حريصين على بلادنا ونعمل على اجتيازها هذا النفق الملئ بالأشواق، فلابد أن نتناسى خلافاتنا، وأن نتحد من أجل اجتياز هذا النفق.. ولتكن النتائج كما يريد الله لها أن تكون، ولكن في النهاية يبقى السودان وطناً للجميع.. وهو بلد ذو خير كثير، ولكن هذه الخيرات لن نستطيع أن نصل اليها إلا إذا اتحدت إرادتنا وقويت عزيمتنا وتوحدت أقاليمنا المضطربة.