يثار هذه الأيام موضوع عيكورة المياه، وهو موضوع سنوي موسمي يتحدثون فيه كلما يأتي موسمه، ولكن أقول إن الأمر ليس بهذه الصورة التي يثار بها، وقد يكون من ضمن دوافعه الصيد في الماء العكر، فأحد الكتاب أشار الى أن تقرير المراجع العام قد تضمن أن العيكورة والمواد المستجلبة لتنقية المياه قد تسبب أضراراً بصحة الإنسان، أنا لست أدري هل أصبح تحديد المواد الضارة بصحة الإنسان من ضمن اختصاصات المراجع العام، إن كلمة العام لا تعني عام في كل الاختصاصات، وإنما عموميته تأتي في مجال اختصاصه، وبمناسبة الحديث عن العيكورة.. فقد عادت بي الذاكرة الى أيام سلفت عندما كنت مسؤولاً إدارياً بمناطق كريمة- مروي.. فقد تهيج النيل في احدى السنوات وغطى الطمي على مياهه، ففشلنا في تنقية مياهه بالصورة المطلوبة، فما كان لنا إلا أن قمنا بتوزيع كميات من«الشب» على السكان والمؤسسات للعمل على تنقية المياه عندما تصلهم، ولكننا فوجئنا بأن المواطنين يقومون بتصفية المياه لغسيل الملابس ويستعملون هم المياه الطازجة الواصلة من النيل وذلك بحجة أن «الشب» يمسخ المياه.. أما على المستوى العام، فإن غالبية أهل السودان على ضفاف النيل يستعملون مياه النيل على طبيعتها حتى في أ يام الفيضانات، وقد شاهدت المزارعين بمناطقنا يشربون من الجداول وبأفوههم مباشرة ودون إناء وهم دائما في كامل صحتهم وعافيتهم، وقد كنا ونحن صغار أيضاً وبعد أن نتناول كميات من البلح الرطب- والذي يصادف موسمه موسم الدميرة والعيكورة- كنا نحتسي كميات من المياه العكرة بمتعة متناهية.. وقد أشار الى ذلك بعض الشعراء في قصائد رائعة كذلك وعندما كنا ندرس في تلك الأيام بمدارس كورتي ومروي كنا نتناول المياه المجلوبة بالأخراج من النيل مباشرة، فما اشتكى أحد منا بشيء وقد كنا نفضلها على مياه الآبار الموجودة بالداخليات، والتي كنا نستعملها للغسيل فقط. إن موضوع تنقية المياه واستعمالها قضية عامة تتأثر بها الكثير من الدول والمناطق، فقد دفعت بي الظروف للقاهرة في مهمة علاجية أسرية، فوجدنا المياه في الحي الذي نقيم فيه لها رائحة وطعم، ولكن ليس عيكورة فهي بيضاء صافية لكن لها هذه العيوب الأخرى، فبدأنا نستعمل مياه القارورات الصحية من البقالات.. ولاحظنا أن معظم السكان يفعلون ذلك، وبصفة مستمرة وليست موسمية.. أقول هذا ولا أدعو الى أن يظل الحال مع العيكورة طبيعياً، فالجهود لابد أن تكثف لتحسين لون المياه لتطمين المواطنين وإزالة الاعتقاد بأن عيكورة المياه سبب في العديد من الأمراض- إن مناطق كثيرة في العاصمة يشربون من الآبار، ولكن مذاقها لا يقارن بمياه النيل في الطعم ومتعة الشراب، إن مشكلة المياه في العاصمة تحظى باهتمام بالغ إذا لاحظنا عدد الآبار التي حفرت، والمحطات النيلية التي ركبت، والشبكات التي يجري تبديلها. فهنيئا لأهل السودان على امتداد النيل بمياههم الطازجة المباشرة، رغم إنشاء المحطات والمعالجات، ويا أهل الخرطوم ما أحلى المياه العكرة، فلا تدعو الفرصة تفوتكم.. جربوها مثلجة وكلها أيام معدودات، ولن تتحصلوا عليها بعد ذلك.