رحل عن دنيانا يوم الثلاثاء الماضي(14 سبتمبر) المفكر الجزائري محمد أركون، المصنف في دوائر الفكر بوصفه حداثياً-علمانياً يدعو لتجديد الفكر والخطاب الإسلامي ليواكب مستجدات العصر، بعقل منفتح على نتاج العلوم الإنسانية الحديثة. وهي دعوة كلفته الكثير من العنت والهجوم من قبل المفكرين الأصوليين، وإن لم تصل حد إخراجه من الملة، مثلما كلفته أحياناً على المستوى الأوروبي والفرنسي هجمات لا تقل شراسة باعتباره مسلماً متزمتاً وأصولياً يتخفى من وراء أزياء الحداثة وقاموسها اللغوي. ولد أركون عام 1928 في بلدة «تارويرت ميمون» بمنطقة القبائل الأمازيغية الكبرى، وانتقل من ثم مع عائلته إلى بلدة «عين الأربعاء» حيث درس الابتدائية وإلى وهران حيث أكمل دراسته الثانوية لدى «الآباء البيض» قبل أن يدرس الأدب العربي والقانون والفلسفة والجغرافيا بجامعة الجزائر، ثم بتدخل من المستشرق الفرنسي «لوي ماسنينون» قام بإعداد رسالته للماجستير «التبريز في اللغة والآداب العربية» في جامعة السربون بباريس، ثم اهتم بفكر الفيلسوف والمؤرخ «ابن مسكويه» الذي كان موضوع أطروحته للدكتوراة. تميز فكر أركون -كما تقول موسوعة «يكبيديا»- بمحاولة عدم الفصل القسري بين الحضارات -شرقية وغربية- واحتكار الإسقاطات على إحداها دون الأخرى، بل يدعو ويبشر بإمكانية فهم الحضارات دون النظر إليها على أنها شيء أو شكل غريب على الآخر، وهو ينتقد «الاستشراق» المبني على هذا الشكل من البحوث. أمضى أركون مسيرة علمية طويلة تسنم خلالها أرفع درجات المواقع الأكاديمية، حيث عمل أستاذاً لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السربون منذ عام 1980 بعد حصوله على دكتوراة الفلسفة منها، وعمل كباحث -مرافق- في جامعة برلين 1986-1987، وشغل منذ العام 1993 منصب عضو في مجلس إدارة الدراسات الإسلامية في لندن. وبرغم انشغاله بالتدريس والمشاركات العلمية فقد كان أركون كاتباً غزير الإنتاج، حيث خلف للمكتبات أكثر من 17 مؤلفاً، أهمها الفكر العربي، الإسلام: أصالة وممارسة، نقد العقل الإسلامي، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، الإسلام: الأخلاق والسياسة، العلمنة والدين.. الإسلام والمسيحية والغرب، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، أين الفكر الإسلامي المعاصر، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي. من أهم اللقاءات الصحفية التي أجاب فيها محمد أركون على سؤال: كيف يفكر، لقاء أجراه معه علي الزين صاحب برنامج «روافد» بقناة العربية، في ذلك اللقاء يقول محمد أركون رداً على سؤال حول دعوته لضرورة إعادة كتابة التراث الإسلامي بقراءة عقلانية-حداثية: إننا لا نزال عندما ندرس تاريخ الفكر الإسلامي نذكر ما يطلق عليه «العهد الذهبي» أو عصر المدنيّة الإسلامية، وهذا العصر الذهبي ينطلق من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وبعد القرن الثالث عشر ننتقل إلى فترة التقلص والتفتيت وفترة النسيان، والنسيان ظاهرة تاريخية مهمة جداً، بمعنى أن أكثر ما كتب في «العصر الذهبي» لم يعد يدرس ولم يعد يقرأ ولم يطلع عليه أو يعتني به المسلمون أنفسهم وعلى الباحث أن يهتم بهذه الفترة الممتدة من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين لمحاولة الإجابة على سؤال لماذا وقع هذا التقهقر والنسيان والانقطاع عن تلك الفترة التي نسميها بالعصر الذهبي. ولماذا انطلق الغرب القريب منا منذ ذلك القرن الثالث عشر لإحداث وإبداع أنواع جديدة من التفكير، حيث بدأ الصراع بين الفكر اللاهوتي «الكنسي» الذي كان يطغى على المشهد ويفرض رقابته على سائر العلوم ليتحرر العقل الغربي من ضغط الفكر الديني. أما نحن في عالمنا العربي والإسلامي فأظن أن الكثير منا يعتني حقيقة بتحرير العقل لا من ضغط الفكر الديني ولكن من ضغط القوى التاريخية والأنظمة السياسية المتغلبة في مجتمعاتنا والمنتجة لتاريخ هذه المجتمعات، وانشغلنا بمعاركنا مع الاستعمار وبالخطاب الايديولوجي لبناء الأمة وللرد على الغرب الاستعماري الذي ما زال حتى بعد الاستقلال يفرض سلطته الاقتصادية والفكرية. ويرى أركون أننا اليوم نعيش على نصوص دينية مقدسة، لكن المشكلة هي: من ذا الذي يقرأ هذه النصوص بطريقة علمية، كما كان فخر الدين الرازي مثلاً يستعين بجميع علوم اللسانيات وعلوم التاريخ والطب والفلسفة واللاهوت والفقه ليفسر نصوص القران المقدسة، وليكتب ذلك الكتاب الضخم «مفاتيح الغيب»، كيف نقرأ القران اليوم؟ بأي أسلحة نحوية لسانية معجمية نقرأه اليوم جميع المعلومات التي نكسبها من الكتب القديمة فيما يتعلق بالنحو العربي، مثلاً، لا يمكن الاعتماد عليها، لأن هناك علم آخر جديد عصري يسمى «علم اللسانيات». ويمضي أركون في نقد أدوات العمل والتفكير التي يعتمدها بعض المعاصرين في معالجة النصوص المقدسة، ويرى -باختصار- أنه لا بد من الاستفادة القصوى من مناهج البحث الحديثة، كما كان يفعل شوامخ المفكرين الإسلاميين في العصور السابقة كابن رشد والرازي وابن خلدون، وعدم الانكفاء على تفسيرات منكفئة على النصوص بدون عقل نير أو بصيرة وهذا ما عرضه للنقد والهجوم والاتهامات. لكن المثير حقاً أن أركون قد هبت عليه هوج الرياح من اتجاهات مختلفة ومتضاربة، جعلته يعترف بمأزقه الفكري والحياتي فكما كتب جورج طرابيشي، تحت عنوان «اعترافات محمد أركون» في 15 مارس 1989 نشر أركون في صحيفة «اللوموند» مقالة حول قضية سلمان رشدي وروايته المثيرة للجدل «الآيات الشيطانية»، فبعد ذلك المقال الذي أثار في حينه لغطاً كثيراً ومناقشات حامية الوطيس، وترتبت عليه ردود فعل أشعرت أركون بالاضطهاد، ذلك لأنه هاجم رواية رشدي وسفهها، فكما قال أركون «كان الإعصار من القوة، والأهواء من العنف، والتهديدات من الجدية بحيث أن كلامي لم يفهم على حقيقته، بل صنفت -فرنسياً وأوربياً- في خانة التيار المتزمت وأصبح محمد أركون أصولياً متطرفاً، أنا الذي انخرطت منذ 30 سنة في أكبر مشروع لنقد العقل الإسلامي أصبحتُ خارج دائرة العلمانية والحداثة» ولا يكتم أركون أن تلك الهجمات العنيفة أشعرته ب«النبذ والاستبعاد، إن لم أقل بالاضطهاد.. وعشت عدة أشهر طويلة بعد تلك الحادثة حالة المنبوذ، وهي تشبه الحالة التي يعيشها اليهود أو المسيحيون في أرض الإسلام عندما تطبق عليهم مكانة الذمي أو المحمي» ويضيف «في الوقت الذي دعوا إلى نبذي وعدم التسامح معي بأي شكل، راحوا يدعون للتسامح مع سلمان رشدي. وهذا موقف نفساني شبه مرضي أو رد فعل عنيف تقفه الثقافة الفرنسية في كل مرة تجد نفسها في مواجهة أحد الأصوات المنحرفة لبعض أبناء مستعمراتها السابقة، إنها لا تحتمله، بل وتتهمه بالعقوق ونكران الجميل، فالفرنسي ذو الأصل الأجنبي مطالب دائماً بتقديم إمارات الولاء والطاعة والعرفان بالجميل باختصار، فإنه مشبوه باستمرار وبخاصة إذا كان من أصل مسلم.