** تمهيد: يعتبر جمهور المواطنين عاملاً حاسماً لأي حراك وما يتبعه من نهضة اقتصادية في كل أمة من الأمم ، وحتى ينهض المجتمع بهذا القدر فلابد من توافر شرطين لازمين يتمثل الأول في رفع وعيه الإقتصادي ، وتمليكه المعلومة الصحيحة، وبسط الواقع بكل أطواره أمامه بلغة يفهمها بعيداً عن المصطلحات الاقتصادية المتخصصة التي لا تتفاعل معها سوى النخبة ، ويقتضي ذلك البعد عن دمغ الخطط والسياسات والقرارات بالإرتجالية أو الإنفعالية . أما الثاني فيتمثل في التزام خطاب إعلامي يبعث على الثقة والأمل والتطلع عوضاً عن الإحباط والتخذيل . إن توافر هذين الشرطين من شأنهما إحالة المجتمع ممثلاً في أفراده جزءاً من العملية الإقتصادية عوضأ عن كونه ضحيتها أو صنيعتها ، وذلك وحده هو المدخل نحو تفجيرالطاقات الكامنة التي تمضي بالأمم نحو غاياتها المنشودة في الكفاية ثم الرفاه. ** تطور أداء الاقتصاد الوطني : 1 / العقد الأول من الألفية الثانية : منذ بداية الألفية الثانية وطوال عقد من الزمان حقق الإقتصاد السوداني منجزات لا تثبتها الأرقام وحسب بل تقوم كثير من المشاريع كشاهد على ذلك . ففي خلال العقد الأول من الألفية أمكن تحقيق إنجازات جلية في مجالات البنيات الأساسية شاملة الطرق والجسور والكهرباء والسدود ، ومشاريع لمياه الشرب وتوسع في الخدمات طال التعليم والخدمات الصحية ، كما حدثت طفرة في المشاريع الصناعية شاملة الأسمنت والسكر والصناعات التحويلية الأخرى. وعلى مستوىالأرقام فقد تضاعف حجم الاقتصاد الوطني بنهاية العقد الأول من الألفية لأكثر من ستة أضعاف عن حجمه عند بداية الألفية . كما بلغ متوسط معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي 7,2 خلال ذلك العقد ويعتبر ذلك من أعلى المعدلات العالمية ، كما استقرت معدلات التضخم في حدود 7% حتى العام 2007 إلا أنها عادت وارتفعت منذ العام 2007 متأثرة بكثير من الظروف المحلية والعالمية لتتجاوز بعد ذلك الخانة العشرية الواحدة . وفيما يتعلق بالإيرادات العامة فقد تضاعفت سبعة أضعاف، وقد اسهم ذلك في ارتفاع نسبة التحويلات للولايات فيما عدا الجنوب الذي كانت لديه ترتيبات مالية مختلفة لاسيما عقب توقيع اتفاقية السلام. كذلك فقد ازدادت تدفقات الاستثمارات الخارجية خاصة في قطاع النفط حيث بلغت في هذا القطاع 18 مليار دولار . ولقد زادت الصادرات الكلية كما زادت الصادرات غير النفطية . وقد أسهمت كل تلك التطورات في زيادة دخل الفرد من 434,1 دولار في العام 2000 إلى 1786 دولار في العام 2010.م . 2- البرنامج الثلاثي 2012م - 2014 م : مع نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة بات يتضح جلياً للقطاع الاقتصادي أن مسلك الحركة الشعبية والمعسكرات المعادية لوحدة السودان تمضي بالجنوب نحو الإنفصال ، ولقد حتم ذلك السناريو المحتمل تحسباً اقتصادياً يستبق الإنفصال بوضع تدابير تحصن الأقتصاد الوطني من أية هزة وذلك عبر برنامج يستطيع احتواء تلك التاثيرات . ومن هنا فقد عمد القطاع الاقتصادي وضع برنامج ثلاثي للفترة من العام 2012 وحتى العام 2014 . لقد تمثل الهدف الرئيسي للبرنامج الثلاثي في استدامة الاستقرار الاقتصادي مع التاكيد على سياسة التحريرالإقتصادي وذلك عبر عوامل عدة من بينها محاصرة عوامل تدني المعيشةللشرائح الضعيفة ومحاربة الفقر ، وإعادة هيكلة الموازنة العامة لمحاصرة العجز الكلي ، وزيادة الجهد الضريبي عبر توسعة المظلة الضريبية مع ترشيد الإنفاق العام. ولتحقيق تلك الاهداف اعتمد البرنامج سلسلة من السياسات من بينها تنشيط سياسة الإكتفاء الذاتي من السلع الضرورية ، وتشغيل المصانع المتوقفة عبر برنامج عملي ، وتوجيه الاستثمار نحو قطاع التعدين خاصة الذهب ، وزيادة الإنتاج الكهربائي . ذلك فضلاً عن حزمة من السياسات المرتبطة بالقطاع الخارجي من بينها ترشيد الإستيراد ، وتشجيع الصادرات غير البترولية ، وتشجيع تحويلات العاملين بالخارج ، وتشجيع التنقيب عن النفط ، وضبط وتنظيم الإنفاق الحكومي بالنقد الأجنبي . كما عمدت السياسات لزيادة الإيرادات العامة من خلال استخدام أنابيب النفط والمنشئات النفطية الأخرى ، والتحرير المتدرج لاسعار السلع ، وتوسيع المظلة الضريبية ، وتقوية وسائل الضبط والمراجعة. كما اعتنت السياسات بالقطاع الاجتماعي عبرالتنسيق بين القطاعين الداخلي والخارجي بما يراعي حاجات المجتمع ، مع تقوية التمويل الأصغر وصناديق الضمان الاجتماعي . كذلك فقد عمدت السياسات لتفعيل القطاع الخاص واستصحاب دورهفي تنفيذ تلك الخطط والبرامج ، مع تقويته عبر الشراكات الفاعلة وعبر إنهاء منافسة الدولة له وذلك من خلال تصفية الشركات الحكومية غير الاستراتيجية . 3 - الفرص والتحديات : على الرغم من التحسن الذي حققته الموازنة خلال النصف الاول من العام 2013 فيما يتعلق بالإيرادات العامة وارتفاعها لنسبة 108% ، إلا أن العديد من الصعوبات ظلت تحد من إمكانية هذا التحسن ومن بينها تداعيات الضغوط الخارجية ، والأزمة الإقتصادية العالمية ، والتحديات الأمنية التي تواجه البلاد مما يؤدي لازدياد الصرف على بنود الأمن والدفاع ، وانحسار تدفق الاستثمارات الأجنبية جراء عدم الإستقرار الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، وكل ذلك أدى لتراكم الدين الداخلي ، وتزايد الإنفاق على دعم السلع الأساسية بجانب الصرف على مشروعات التنمية . لقد أفضت كل تلك التطورات لوضع برنامج متكامل للإصلاح الإقتصادي بهدف تحقيق استقرار اقتصادي ومعالجة جذرية لعجز الموازنة عبر الإنفاق العام والإستمرار في السياسة المجازة برفع الدعم تدريجياً ، واحتواء ارتفاع معدلات التضخم . ويقتضي البرنامج الولاية الكاملة لوزارة المالية على المال العام وضبط وترشيد و خفض الإنفاق الحكومي ، كما يشمل حزمة من السياسات لزيادة الإيرادات ، وأخرى لترشيد النقد الأجنبي . كما اعتمد البرنامج سياسات لزيادة الإنتاج في المحاصيل النقدية والثروة الحيوانية ، وتشجيع تدفق الاستثمارات اعتماداً على تنوع مصادرها في البلاد. 4 - رفع الدعم : تجمع جلَّ النظريات الإقتصادية على الأضرار الوخيمة لدعم السلع وذلك لمبررات علمية وموضوعية يمكن حصرها في الآتي : - التشوهات الهيكلية في الإقتصاد والتي ينتج عنها ارتفاع معدلات التضخم ، و تراكم الدين الداخلي ، واستزاف موارد كان بالإمكان توجيهها للتنمية . - إفادة الفئات القادرة على حساب الطبقة الوسطى والشرائح الضعيفة . - التشجيع على الأنماط الإستهلاكية غير الرشيدة . - مراكمة الدين الخارجي بحيث يمثل عبءاً على الأجيال الجديدة ويقلل من حظوظها في بناء أمة فاعلة. وبالنسبة للسودان فإن الحكومات المتعاقبة ما قبل حكم الإنقاذ فقد ظلت تنتهج سياسة الدعم لبعض السلع عبر منظور سياسي قصير الأجل قد يجلب لها بعض الرضا الشعبي المؤقت في حين تلجأ للقروض لسد العجوزات الناتجة الدعم . ونظراً لضعف الناتج القومي الإجمالي ، وعحجز تلك الحكومات عن تنويع مصادر الدخل يتراكم الدينبفوائده الأمر الذي أثقل كاهل النمو الاقتصادي وشلَّ حركته . وللنظر في شأن رفع الدعم الحالي علينا أن ندون ملاحظات هامة : 1- تقتضي سياسة ( التحرير المتدرج للسلع ) الواردة بالبرنامج الثلاثي رفع الدعم تدريجيا عن السلع المدعومة . 2- على المستوى العملي فلا يمكن لجمهور المواطنين أن يقبل من حكومته دعم من ليس بحاجة للدعم على حساب شرائح أخرى ، وتكفي الإشارة في هذا الصدد لرفع الدعم عن المواد البترولية و ما يثور حولها من جدل مع وضع بعض الملاحظات حول ذلك الدعم : - تشمل الفئات المستفيدة من الدعم شرائح من غير المعقول أو المنطقي أن تدعم مثل متحركات المنظمات الدولية ، والممثليات الدبلوماسية ، والشركات الكبرى والشرائح التي تمتلك سيارات خاصة ومثل هؤلاء سيان إن كانوا ميسرين أو حتى من ذوي الدخول العادية ممن تتيح دخولهم اقتناء سيارة خاصة فإن دعمهم يكون على حساب الفئات الضعيفة . - تتركز جلَّ السيارات المستهلكة للبنزين بالعاصمة، وقليل متفاوت في مدن أخرى في حين تندر أو قد تنعدم تماماً في جلِّ الريف السودان بمختلف الولايات مما يعني أن دعم هؤلاء يكون على حساب الريف السوداني في المدن الصغيرة والقرى وفي ذلك غمط متعمد لأهل الريف وتمميز غير عادل للنخبة . - وحتى داخل العاصمة فإن الذين يستغلون المركبات العامة هم عشرات الأضعاف مقابل ملاك السيارات الخاصة . - المعلوم أن مواطني دول العالم الأول وغالبهم يملكون سيارات خاصة يستخدمون وسائل النقل العام في غالب حركتهم للعديد من الأسباب من بينها الحرص على البييئة ومن بينها إحساس المواطن بمسئوليته تجاه الحد من استيراد النفط بواسطة بلاده حفاظاً على الموارد العامة ، وترشيدا لموارده الخاصة .. إن تطوير وسائل النقل العام في السودان كماً وكيفاً من شأنه أن يعزز بالتدريج من تلك النزعة . وفيما تمضي الدولة تدريجياً لرفع الدعم من أجل الإصلاح الشامل لبنية الإقتصاد فهي تعلم أن ثمة آثار جانبية سالبة على المواطن ، ولذلك فقد تزامنت تلك الخطوات مع العديد من المعالجات يكفي أن نذكر منها : - التأمين الصحي بإسهامه المباشر في تقليل نفقات العلاج . - مشاريع الإسكان الشعبي وما كفلته للمواطنين من مدخل ميسر للحصول على المأوى . - اتساع وتيسير عمليات التمويل الأصغر لتكون متاحة للشرائح الضعيفة مما يمكن صغار المنتجين أو أولائك الراغبين في استهلال أعمال صغيرة من تحقيق أهدافهم . - الزيادة المرتقبة في الأجور والتي ستسهم على نحومباشر في التخفيف من الآثار السالبة . - وأخيراً فإن العافية الكلية للإقتصاد المترتبة حزمة الإصلاحات سوف تؤتي أكلها وتنعكس إيجاباً على الشرائح الضعيفة . ختاماً فإن حصافة الإنسان السوداني ، وإدراكه لما تحقق من منجزات ، وارتفاع مستويات المعيشة المترتب على انتشار البنيات الأساسية من طرق وجسور وكهرباء ، ومثل هذا الدفع الوطني المنتصر للشرائح الضعيفة لا يستحق و لن تثنيه أية أصوات داعية للإحباط أو اللامبالاة بل أن واجب المرحلة هو الخطاب الصادق القوي المفعم بالأمل وذلك كفيل بتفجير طاقات الأمة نحو غد أفضل ..