تلك المراحل المبكرة من حياتنا لم نكن نستوعب معنى الغزو من أجل الذهب، خاصة ونحن نرى بلادنا تمضي في فقرها وتخلفها.. فإن كان هناك الكثير من الذهب كما يقولون فلماذا لا يستخرجه أبناء البلاد منذ ذلك التاريخ أو منذ حصولنا على الاستقلال قبل أكثر من نصف قرن من الزمان. يبدو أن محمد علي باشا كان ملماً بأحوال السودان، وعالماً يجغرافية وإمكانياته.. فسارع لاستغلال خيرات بلادنا ونبش محرماتها.. أما نحن أصحاب الأرض فجل ما فعلناه منذ الاستقلال فهو مجموعة شركات صغيرة بشرق السودان للتنقيب عن الذهب.. ورغم أن هناك شركة فرنسية تعمل كشريك للحكومة في هذا المجال إلا ان الإنتاج لا يزال ضئيلاً مقارنة بما يتواتر من تقارير تؤكد أن معظم أنحاء السودان غنية بهذه الثروة التي يمكن أن تنقل البلاد من حال إلى حال. بحيث يصبح البترول بجانبها ذا مردود قليل. لقد أدرك المواطن السوداني في أنحاء عديدة من البلاد ومنها المناطق الشمالية بالذات أهمية هذه الثروة التي لم تفعل الدولة تجاهها أكثر من تسوير بعض المناطق كمحميات يمنع التنقيب داخلها.. لقد هجم الآلاف من المواطنين الفقراء ومن ذوي الطموح والباحثين عن الثروة على تلك الفيافي بحثاً عن الذهب.. ولقد بذلت العديد من الصحف التحقيقات والروايات عما يجري في مناطق التنقيب العشوائي عن الذهب من معاناة.. عذاب.. جوع.. عطش .. وأرواح تذهب لباريها بفضل لعنة الذهب! وكالعادة لم تتدخل الدولة إلا بغرض الجبايات وجمع الأموال لمصلحة المحليات.. نحن لا ننكر حق الدولة في ذلك، ولكن كنا نأمل أنها قبل أن تفكر في فرض الجبايات أن تفكر في حق مواطنيها في الأمن والحماية وتوفير الخدمات وأن تسخِّر أجهزتها من أجل تنظيم هذه العملية بما يحفظ للمواطنين كرامتهم و أرواحهم.. نعتقد أن على الدولة أن تحدد الأماكن المتاحة للتنقيب حتى تستطيع حمايتها والسيطرة عليها أمنياً في المقام الأول.. أما من الناحية الأخرى فلابد للدولة من الرقابة الاقتصادية حتى تعرف كميات الذهب المستخرج ولمن يباع، وهل هناك تقييم حقيقي لسعره. والحقيقة أن هذه الفوضى العارمة قد تودي لابتزار المواطن المنهك من «محتكري» شراء الذهب.. يشترون بأسعار أقل كثيراً من الأسعار الحقيقية. إن إنصاف المواطن لن يتحقق إلا إذا عهدت الدولة بتوجيه وزارة المالية بالشراء المباشر، وإذا لم يكن ذلك ممكناً لأسباب فنية فيجب على الدولة التدخل لتحديد الجهات التي تتعامل في مجال شراء الذهب الخام.. وتحديد أسعار معقولة تحفظ للباحثين عن الذهب حقوقهم بحيث يصبح عائد جهودهم وعذابهم في تلك الصحاري والقفار معقولاً. في رأي أن الرقابة على هذا المنتج الإستراتيجي مهمة للغاية.. لأن الذهب قد يصبح بالفعل مصدراً مهماً للدخل القومي. لهذا يجب معرفة كمية الذهب المستخرج وأين يذهب بعد استخراجه.. خاصة وأن هناك فرص كبيرة لتهريب الذهب وبلادنا محاطة بعدد كبير من الدول التي يمكن أن يتسرب إليها وبالتالي تفقد بلادنا الاستفادة منه، خاصة أنه يمكن أن يكون جزءاً من الدورة الاقتصادية التي تدعم مشاريع التنمية. كما أن هناك من يسعفهم الحظ فيحصلون على كميات مقدرة من الذهب بقليل جهد.. بل أن هناك شركات تعاونية قد نشأت بإمكانيات كبيرة من أجل تقنين البحث عن الذهب.. فأين مصلحة الضرائب من كل هذا؟! نحن لا ندعو لفرض الضرائب على صغار الباحثين وإنما مراقبة أصحاب الخطوط الذين يصبحون بين ليلة وضحاها من الأثريا! طبعاً لا يمكن أن تستمر هذه الفوضى العشوائية في البحث عن الذهب.. لهذا لابد أن تتعاون الأجهزة المختصة بوضع الضوابط التي تحفظ هذا المورد المهم الذي يمكن أن يصبح أهم داعم للاقتصاد الوطني.. وفي رأيِّ أن ذلك يتم عن طريق الآتي:- أولاً: ليس هناك ما يمنع أن تتيح الدولة لمواطنيها فرصة التنقيب عن الذهب، ولكن ذلك لابد تتبعه بعض المقومات التي من أهمها: 1- خفر المناطق المتاحة للجمهور ومدها بالخدمات الأساسية للحياة كالمياه وخدمات المواصلات والإعاشة. 2- تحديد المسارات بحيث لا يتعرض الباحثون عن الذهب للضياع في الصحراء القاحلة. 3- تبحث الدولة أو الولايات عن وسائل تمكنها من معرفة كمية الإنتاج والاطمئنان لعدم تهريبه. 4- تحديد نسب معقولة للمحليات من عوائد الذهب تسهم في تقديم الخدمات لمناطقها.. ثانياً:- أن تأخذ الدولة موضوع الذهب بجدية أكبر وأن تقوم بوضع خارطة لمواقعه وبحث الكميات المفترضة ومن ثم البحث عن شركاء ذوي خبرة للتنقيب عن الذهب.. بما يخدم المصلحة الوطنية ويدعم الاقتصاد الوطني خاصة أنه مع احتمال انفصال الجنوب وذهاب معظم النفط المتاح حالياً للدولة الوليدة فإن الذهب قد يعوض الخسائر المحتملة. وأخيراً إذا كان محمد علي باشا قد أدرك في ذلك الزمان أهمية الذهب السوداني وأرسل جيوشه من أجل الحصول عليه.. فإننا للأسف الشديد لم نقرأ التاريخ جيداً.. فأهملت الحكومات المتعاقبة هذا المورد المعروف ولم تلتفت إلا للصراعات الحزبية والمكايدات السياسية.. فقط هو الإنسان البسيط الذي طحنته المشاكل ودفعه الفقر للبحث عن الأمل المنقذ في صحاري العتمور الموحشة وشعاره «الموت أو الحياة الكريمة بالذهب الرنان».