تقليداً كان مفهوم الأمن يكاد يكون قاصراً على الأمن العسكري، إذ كان يبدو أن التحديات التي تواجه دولةً ما تأتي من استعمال العنف من خارجها، أي من جانب دولة أخرى، أو ربما استخدام العنف والتمرد من الداخل . ومن ثم سعت الدول إلى تحقيق أمنها عن طريق تكوين القوات المسلحة، من أجل مقاومة أو ردع أي هجوم محتمل، ولكن مع التغيرات السريعة التي شهدها العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يعد هذا المفهوم الضيق للأمن معبّراً بصدق عن التحديات المختلفة التي تواجه الدول، والتي تمثل تهديداً لمصالحها الحيوية، في عالم تزداد فيه ظاهرة الاعتماد المتبادل، وربما يكون أوضح الأخطار التي تهدد الأمن هي الأخطار الاقتصادية، فضلاً عن الأخطار التي يمثّلها التقدم التكنولوجي في مجال الاتصالات، بما وفره من سهولة في مهاجمة القيم المعنوية للدول . على أن أهم ما يعنينا هنا في مجال دراسة مشكلات البيئة الدولية، والبحث عن دور الأممالمتحدة في إدارتها والتعامل معها ، هو التحدّي البيئي أو التهديد البيئي لأمن الدولة . وهنا نجد المثال الواضح فيما يُسمى «التدفق المادّي عبر الحدود»، والذي يهدّد اسلوب الدول في حياتها، بل يهدّد سلامتها الإقليمية . وهذه المسألة -أي التدفق البيئي عبر الحدود - تشمل جميع القضايا الدولية التي تنجم عن تدفق مواد طبيعية غير مرغوبة من دولة إلى أخري، فهذه المواد بعد أن تعبر الحدود الدولية (بالهواء والمياه)، يمكن أن تؤدي إلى تدهور في البيئة المادية لدولة أخرى . ويمكن أن يأخذ هذا التدهور أشكالاً مختلفة، فتلك المواد يمكن أن تلوّث مياه الشرب، أو تؤثّر في الإنتاج الزراعي، أو تخفيض غلّة الغابات، وربما تؤدي هذه التطورات إلى إحداث اضطرابات سياسية تهدّد أمن الدولة . والمألوف أن تأتي الأخطار التي يتعرض لها أمن الدولة، سواء كانت عسكرية أو غير عسكرية، من جانب أطراف خارجية . بالإضافة إلى أن تلك الأطراف تحتفظ عادةً بالسيطرة أثناء قيام التهديد . وبالتالي تكون قادرة على سحب هذا التحدّي في أي وقت . ويمكن أن يتخذ هذا السحب أشكالاً متعدّدة: سحب القوات العسكرية ، أو رفع العقوبات ، أو وقف الحملات الإذاعية، أو إغلاق مصنع . وإذا كان هنالك وجه للتشابه من حيث أن الأخطار الناشئه من التغيُّرات البيئية الكونية ربما تكون صادرةً من جهات أجنبية : مثل قيام مواطني دول أخرى بإطلاق غازات ومواد كيماوية في الغلاف الجوي- فإن الوضع لم يعد تحت سيطرة احد ممن يتخذون القرارات، ويجري تنظيم الأوضاع بدلاً عن ذلك عن طريق الأنظمة الطبيعية للأرض، ولذا فليس في وسع أي فرد أو مجموعة من الأفراد سحب هذا التحدّي الأمني على الفور. وهذه هي السمة الأساسية المميزة للأخطار الأمنية الجديدة. ولمواجهة هذه التحديات الجديدة هنالك حاجة إلى تقنيات جديدة. وكما رأينا فإن فهمنا للأمن قد تحرّر من قيوده العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية . يجب الآن أن نبحث عن تحوّل جوهري آخر من الأسلوب الذي تسعى به الدول إلى تحقيق درجة كافية من الأمن. ولم يعد يجوز لقادة الدول أن يكتفوا برد الفعل في سياستهم الأمنية، بل يجب أن يتخذوا أيضا اجراءات وقائية . لأننا في هذه الأيام التي تحدث فيها تغيرات بيئية على النطاق الكوني لايمكن أن نضع كل الثقة في فهمنا التقليدي لإدارة الأزمات واتباع سياسة حافة الهاوية . وعلى العكس فإن تفكيرنا في الأمن - على ضوء هذه الأخطار الجديدة الشاملة - يجب أن يكون سبّاقاً حتى يعوض الفترة التي لابد من مرورها حتى يحدث أي إجراء أثره على عمل الأنظمة الطبيعية للأرض، ومن ثم فإن الاستجابات على صعيد العالم كله أصبحت أمراً لا غنى عنه. وتشكّل أزمة البيئة المتزايدة والمتسعة النطاق تهديداً للأمن القومي - بل البقاء ذاته- ربما بخطرٍ أعظم من جيران مسلّحين جيداً وميّالين للعدوان أو خلفاء معادين، وقد أصبح التدهور البيئي فعلاً مصدراً للاضطراب السياسي والتوتر الدولي في أجزاء أمريكا اللاتينية ، وآسيا والشرق الأوسط، وأفريقيا . فقد كان الدمار الذي حدث مؤخراً لمعظم انتاج الأراضي الزراعية الجافة في أفريقيا أشد قسوةً مما لو أن جيشاً غازياً قد قام بتنفيذ سياسة «الأرض المحروقة» على تلك الأرض .ومع ذلك لاتزال معظم حكومات البلدان المتأثرة بذلك تنفق لحماية شعبها من الجيوش الغازية أكثر كثيراً مما تنفق لحماية غزو الصحراء. يبلغ الإنفاق العسكري العالمي ترليون دولاراً سنوياً وهو مستمر في النمو . ويستهلك الإنفاق العسكري في العديد من بلدان العالم نسبةً عاليةً من إجمالي الإنتاج الوطني، بحيث يسبب هذا الإنفاق في حد ذاته ضرراً عظيماً لجهود التنمية في هذه المجتمعات . وتميل الحكومات إلى أن تبني مواقفها الأمنية على مفاهيم تقليدية.