ü شهدت نهاية الاسبوع الماضي زيارة وزيري الخارجية والدفاع الروسيين لمصر، حيث اجتمعا مع الرئيس المؤقت عدلي منصور ووزيري الدفاع والخارجية المصريين عبد الفتاح السيسي ونبيل فهمي.. وهي زيارة استثنائية ومهمة بكل المقاييس. فمن حيث الشكل والتنظيم، ربما تكون هي المرة الأولى التي يرافق فيها وزير الدفاع الروسي زميله وزير الخارجية في زيارة مشتركة لبلد من البلدان، مما يوحي بالأهمية التي ينظر بها الكرملين للزيارة، وأهمية البلد الذي يزوره الوزيران والملفات المطلوب بحثها، والوصول إلى تفاهم بشأنها في العلاقة المستقبلية بين البلدين. وكما قال السفير بدر عبد العاطي الناطق باسم الخارجية المصرية تعليقاً على الزيارة، فإنها تعبِّر عن اهتمام روسيا بمصر كقوة إقليمية كبرى في واحد من أهم أقاليم العالم من وجهة نظر الإستراتيجيات الدولية، علماً بأن الزيارة تأتي من جانب قوة عالمية عظمى هي جمهورية روسيا الاتحادية.. روسيا التي أخذت تستعيد مكانتها بقوة وبخطوات متسارعة بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك كتلة الدول الشرقية في تسعينيات القرن الماضي. استثنائية وأهمية الزيارة تنبع أيضاً من «التوقيت».. فالزيارة تأتي في وقت تشهد فيه مصر اضطراباً كبيراً أمنياً واقتصادياً جراء الأحداث والتطورات التي ترتبت على ثورة 30 يونيو والإطاحة بالرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، وهي الاطاحة التي كشفت للعالم أجمع مدى التعاطف الكبير بين الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين مع «الجماعة»، وهو تعاطف ربما أملته التقديرات الغربية لما يمكن أن يلعبه تمكين جماعات الإسلام السياسي في مصر والمنطقة في «الحرب على الإرهاب»، بوجهة نظر براجماتية- عملية، حتى تصبح تلك الحرب، حرباً داخلية بين الإسلاميين وشعوبهم وتكفي الغرب «شر القتال»، بغض النظر عن كل ما يدعيه الغرب من مساندة وتنمية الديمقراطية.. فكان ما كان من بداية الضغط على مصر بخفض المعونات، والعسكرية منها على وجه الخصوص، تلك المعونات التي جاءت ضمن صفقة «تشجيع السلام» مع اسرائيل وفق اتفاقية كامب ديفيد. فالزيارة في هذا الإطار تقول للأمريكيين وللغرب عموماً إن مصر ليست وحدها، ولا يمكن حصارها بمجموعة اجراءات عقابية.. وكلنا شهدنا الأموال العربية التي تدفقت عليها وبلغت أكثر من 12 مليار دولار بعد أيام قليلة من انتصار الثورة، قدمتها دول عربية مثل السعودية والامارات والكويت بلا منٍ ولا أذى، بل بعرفان كبير لدور مصر الرائد في المنطقة وأهمية بقائها مستقرة وقوية لأمن الخليج والأمن القومي العربي في عمومه، وهذا بدوره شجع روسيا ذات العلاقة التاريخية مع مصر التي تعود إلى أيام الحرب الباردة بين القطبين الدوليين، والتي وقفت روسيا أوانها إلى جانب مصر في مواجهة الغرب واسرئيل، فمولت السد العالي وأقامت الصناعات الثقيلة وقدمت السلاح الذي مكن مصر من الدفاع عن نفسها، حتى عام 1973 عندما انتصرت بالسلاح السوفيتي في مواجهة الترسانة الاسرائيلية الغربية ودمرت خط بارليف ومحت آثار عدوان حزيران 1967.ü لكن لا مصر ولا روسيا تنظر الآن لتجديد العلاقة القديمة بمثابة عودة للماضي، فكما كرر وزير الخارجية المصرية فهمي فإن القاهرة لا تهدف من مد الجسور نحو موسكو، لاستبدال علاقة أمريكية بأخرى روسية، لكنها تريد أن تكسر الإرتهان لجهة دولية واحدة، إعمالاً للإرادة الوطنية المستقلة التي تتحرك وفقاً لما تقتضيه المصلحة المصرية بين بدائل متعددة من دون استقطاب أو احتكار، ذات الفكرة التي عبر عنها الخبير العسكري المصري اللواء محمود زاهر بايجاز بليغ بقوله «استقلالية القرار في حرية الاختيار». ما يجب أن ينتبه له الجميع هو أن المعونة الأمريكية العسكرية لمصر البالغة نحو (3.1) مليار دولار- معظمها تأتي في شكل مبيعات وخدمات وتدريبات- والمدنية متناقصة بحكم الاتفاق ولاتزيد حالياً عن 450 مليون دولار في العام، هذه المعونة لا تشكل رقماً مهماً ذا تأثير خطير في مجمل حركة الاقتصاد المصري، كما أن أسلحة الجيش المصري التقليدية وعقيدته الدفاعية تعود إلى ما قبل الثمانينيات عندما كانت كل الأسلحة وكل التدريب يأتي من الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، وبالتالي لن تفقد مصر كثيراً من وجهة النظر العسكرية حتى لو واصلت أمريكا الضغط على القاهرة عبر حجب بعض شحنات الطائرات التي وعدت بتقديمها في أوقات سابقة، كما فعلت بعد عزل الرئيس محمد مرسي. مصر تتحرك أيضاً باتجاه تنمية علاقتها مع الصين العملاق الاقتصادي الصاعد في مجال المال والصناعة والتجارة الدولية، كما تتحرك باتجاه البرازيل ومجموعة دول أمريكا اللاتينية الآخذة بمبدأ استقلال القرار الوطني، وكل ذلك يؤكد امكانية بروز عالم جديد متعدد الأقطاب خصوصاً في ضوء الأزمة والتراجع الاقتصادي الذي تشهده الولاياتالمتحدة التي تحولت مع نهايات القرن الماضي ومطالع القرن الجديد من «أكبر دائن» إلى «أكبر مدين» في العالم، حتى اضطرت أخيراً إلى تجميد مئات الآلاف من وظائف عمالها في الحكومة الاتحادية، وإلى الوصول إلى صفقة سياسية بين إدارة أوباما وجمهوريي الكونجرس لرفع سقف الدين الخارجي من (7.16) ترليون إلى (38.17) ترليون دولار ديون معظمها للصين وروسيا الاتحادية والسعودية وآخرين لا نعلمهم الله يعلمهم.. فأمريكا المهيمنة على عالم ما بعد الحرب الباردة ينطبق عليها المثل السوداني «بالدين نسوِّي الزين» تماماً كما «ود أبزهانة» على أيام السلطنة الزرقاء، ويبدو أنه قد آن الأوان لأن تتراجع واشنطن وتتواءم مع الواقع الجديد و«تمد رجليها قدر لحافها» من أجل عالم متعدد الأقطاب بدأ يبرز بين القاهرةوموسكو.