ü بقدر ما للثورات والتحولات الكبرى في حياة الشعوب من إيجابيات ونِعَم على المستوى العام.. بفتح طريق التقدم والتطور والنهوض، إلا أنها في الوقت ذاته تخلف وراءها على المستوى الخاص مآسي ومظالم وقصصاً إنسانية معجونة بالحزن والكآبة في حياة الأسر والأفراد، الذين يدهسهم قطار الثورة بلا رحمة، ويزداد حزن هؤلاء واكتئابهم عندما يواجهون الإهمال وقلة الاهتمام والرعاية في أعقاب انتصار الثورات التي إرتوت بدماء شهدائهم ونزيف جرحاهم، فيقبعون في دورهم انتظاراً لوعود العدالة الأرضية، التي غالباً ما لا تأتي، فيتذرعون ويتصَّبرون بعدل السماء والواحد الذين لا يُظلم عنده أحد. ü يوم 19 نوفمبر من كل عام يصادف ذكرى شهداء وجرحى شارع محمد محمود، تلك الموجة الثانية من ثورة 25 يناير 2011م التي خرج فيها شباب الثورة مطالبين باستكمال أهداف الثورة التي أطاحت بنظام حسني مبارك.. خرجوا في مواجهة المجلس العسكري الانتقالي الذي مدَّد عمر الفترة الانتقالية بعد أن وعد بانجازها خلال ستة شهور، وبعد أن رأوا أن لا شيء من تلك الأهداف المتمثلة في «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والقصاص للشهداء والجرحى» يتحقق على أرض الواقع، فواجهتهم قوات الأمن وقوى أخرى اسموها «مندسة» بالرصاص فسقط منهم نحو 70 شهيداً، وانسحبت من المشهد حينها بعض القوى الإسلامية التي شاركتهم الخروج والتظاهر في البداية، والتي كان يقودها الزعيم السلفي (حازم) أبو اسماعيل. ü في العام التالي 19 نوفمبر 2012، خرجت ذات الجموع الشبابية تُحييِ ذكرى من سقطوا أو جرحوا وأعيقوا في العام السابق، فاستشهد بعضهم أبرزهم «محمد كريستي» وجابر صلاح «جيكا» وجُرح العشرات واختفى القتلة وسط الزحام، وشكل الرئيس المعزول محمد مرسي حينها «لجنة لتقصي الحقائق» حول شهداء وجرحى الثورة لكنها لم تنته إلى شيء مفيد وتاهت «ملفات التحقيق» وسط زحام التدافع والأجندة المتضاربة، حتى قامت ثورة 30يونيو التي أطاحت بنظام «الإخوان». ü أمس الأول- 19 نوفمبر- تكرر خروج شباب الثورة مرة أخرى يرفعون ذات المطالب، وفي مقدمتها حقوق الشهداء والجرحى.. فهم لم يروا حتى بعد مرور أكثر من أربعة شهور على الإطاحة بنظام مرسي أن عملاً دؤوباً أو جهداً لافتاً يبذل من أجل استرداد تلك الحقوق والدماء المهدرة، وكان خروجهم هذه المرة وفي ظل أجواء التوتر التي أعقبت الإطاحة بمرسي وجماعته والصدامات اليومية وعمليات القنص والإغتيال التي تستهدف قوات الجيش والشرطة فرصة لذات الفريق- الإخوان والتحالف الوطني لاستعادة الشرعية- لتصعيد الاحتجاجات وأعمال الإغتيالات بحيث «تختلط الأوراق»، حيث قرروا الانضمام للمتظاهرين المطالبين بدماء الشهداء الذين وصفوهم بعد وصولهم للسلطة بأنهم جماعات من البلطجية، مُعلنين حينها «انتهاء الثورة» و«انتقال الشرعية من الميدان إلى البرلمان».. لكن قوات الأمن كانت لهم بالمرصاد، كما أن معظم قوى 30 يونيو نأت بنفسها من تلك التظاهرات تحسباً لاستغلالها من قبل الإخوان وحلفائهم، الذين وجهوا رصاصهم لأحد ضباط جهاز الأمن الوطني- المقدم محمد مبروك- في الليلة السابقة للذكرى فأصابوه بأكثر من سبع رصاصات دفعة واحدة، وأعلنت جماعة مموهة تُدعى «ثوار بيت المقدس» مسؤوليتها عن العملية.. فاحتفل ثوار تمرد وقوى الإنقاذ الوطني بالذكرى قبل يوم واحد من حلولها في ميدان عابدين، ورفعوا صور الشهداء والجرحى وطالبوا بالقصاص. ü ميدان التحرير وشارع محمد محمود ونوبار شهد صدامات عنيفة بين الثوار وأنصار الإخوان الذين تقاطروا إلى المكان وسط دهشة المصريين الذين يعرفون موقف الإخوان من أحداث محمد محمود، واتخذت قوات الشرطة في البداية موقف «المراقب» لتلك الاشتباكات قبل أن تتدخل بحذر، وتفض الاشتباكات، التي تمركزت عصراً ومع أول الليل في ميدان التحرير، حيث تم تحطيم حجر الأساس الذي وضعه رئيس الحكومة حازم الببلاوي إيذاناً بإقامة نصب تذكاري لتخليد ذكرى الشهداء بعد طرحه في مسابقة فنية للنحاتين والتشكيليين، والأسوأ من ذلك ما جرى ليلاً من إنزال علم مصري بلاستيكي كبير كان قد رفع في المناسبة وإحراقه من قبل شباب مصريين يبدو أن انتماءهم «لأفكارهم» تفوَّق على انتمائهم للوطن. ü من العوامل التي خلقت حالة من التوازن وخففت الاحتقان وقللت عدد الضحايا، وما كان يمكن أن يترتب على تلك المواجهات هو مباراة كرة القدم التي أقيمت في ذلك اليوم في إطار منافسات كأس العالم، والتي جمعت بين فريقي مصر وغانا، فحتى المجتمعون في ميدان التحرير انشغلوا وقت المباراة بمتابعة أحداثها، خصوصاً وهي مباراة رد على الهزيمة الكبيرة التي تجرعها الفريق المصري (5-1) في غانا، وكان المصريون يتحرقون شوقاً إلى معجزة تحملهم إلى نهائيات الكاس في البرازيل، أو على الأقل يستردون بعض هيبة فريقهم القومي، فنالوا الأخيرة وإن لم تتحقق المعجزة.