آثرت أن أتابع خطاب فخامة الرئيس عمر البشير من داخل بيتي عبر التلفزيون وذلك لعدة أسباب منها- أنني كنت أعلم علم اليقين أن الخطاب لن يحمل أي «مفاجأة» كما كان يظن ويروج لذلك بعض حملة المباخر (الهيترية) التي اجتهدت كثيراً في إطلاق البخور كبعض الزواحف التي تطلق نوعاً من الخدر لتشل حركة فريستها قبل الانقضاض عليها، ولعل بعض تهويمات ذاك البخور المخملي قد أصابت معدي وجبة الخطاب داخل مطبخ حزب المؤتمر الوطني(الحزب الحاكم)وربما منهم الأستاذ سيد الخطيب(كبير الطهاة) في زمن مابعد وجبات (الجانك فود) التي كانت تعد من قبل، حيث كانت تقدم وجبات محوره وراثياً غير ان أحد الطهاة كان (شيفاً) ممتازاً وماهراً وكان يقدم طعاماً (نافعاً) أكثر من وجبات كبير الطهاة الجديد الذي يتكيء على رصيد أكاديمي حديث ومتقدم جداً، مما يدفعه ذلك لاستخدام(فرن مايكرويف) لاعداد وجباته الخالية من أي بروتين(نافع). في إعتقادي الخاص جداً أن توقيت تقديم خطاب فخامة الرئيس البشير كان خاطئاً ومتسرعاً ومرجعيتي في هذا الاعتقاد تتمثل في التصريح الذي أدلى به الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل الذي كشف فيه:أن الاعلام وتسريباته قد عجلت بتقديم موعد خطاب الرئيس البشير الي جانب بعض التصريحات التي أعطت سقفاً عالياً للتوقعات التي تشكل نسيج (المفاجأة) وذكر الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل أن الخطاب كان يجب أن يلقيه السيد الرئيس عقب عودته من العاصمة الاثيوبية اديس أبابا وذلك بعد ان يلتقي بالقوى السياسية وبعد ان تدلي تلك القوى بدلوها، وبعد ان يجتمع أهل الحل والربط في المؤتمر الوطني ويتم الاتفاق على توصيات واجندة يقدمها الرئيس في خطابه «المفاجأة» التي رسم خيالها في أذهان البعض تشكيل حكومة إنتقالية بل وشطح الخيال الي اعلان تنحي البشير عن منصبه ومسؤولياته، وتكليف الفريق ركن بكري حسن صالح باعتلاء سدة الحكم رئيساً للجمهورية..تم التعجيل بتقديم الخطاب حتى لاتذهب توقعات(المفاجأة) الي مداها العبثي. قبل التحدث عن التداعيات التي أحدثها الخطاب كان لابد لي من الحديث عن الخطاب نفسه وأقول إن الخطاب قد أعد بلغة متعالية، ومفردات صعبة، وكأنما أعد للنخب كما أن الخطاب جاء استعراضاً لقضايا متراكمة تتوجب التحاور حولها، وبحث امكانية وضع الحلول لها، ولعل أهم القضايا التي تناولها الخطاب هي قضية السلام وهي بلاشك قضية محورية اذ أن الحرب قد أرخت بظلالها الكارثية على البلاد وارهقتها كما ان الخطاب دعا للحوار المفتوح وبلا قيود، حتى مع الحركات المسلحة.. كما عبر الخطاب عن ادراك عميق لمعاني الوطنية، وشرف الوطنية، ورفع سقف قيمة الوطنية وتجاوز جراحات الماضي وغوغائية التباينات الايدولوجية التي تأسست على أفكار الغير في الوقت الذي نحتاج فيه الي الإجماع الوطني من اجل استشراف حاضر نبيل ومستقبل جميل مؤطر بقسمه السلطة والثروة على أساس إشاعة العدالة والسلام الاجتماعي. كما جاء الخطاب كوثيقة للاصلاح الشامل التي ينبغي ان يتواثق عليها الجميع عبر الحوار الخلاق، وليس السفسطة والجدلية الفارغة التي لاتفضي الا لحوار الطرشان. اما عن التداعيات التي افرزها الخطاب فهي كثيرة ومتباينة غير انها حظيت باجماع وطني شامل وإتفاق هائل حول القضايا التي تشكل أشواق الجماهير، ولعل اللافت للنظر هو الحضور النوعي والكمي للقوى السياسية، حيث كان في مقدمة الحضور الشيخ الدكتور حسن عبدالله الترابي رئيس حزب المؤتمر الشعبي الذي اصطحب معه اركان حربه وقيادات مجلسه التنفيذي وكذلك السيد الامام الصادق المهدي، ومندوب الميرغني وكذلك الدكتور غازي صلاح الدين العتباني رئيس حزب (الاصلاح الآن)الذي كان قد انسلخ مؤخراً عن المؤتمر الوطني وشكل حزبه الاصلاحي الجديد ولعل الغريب في الأمر أن الدكتور غازي قد نادى بالإصلاح من داخل المؤتمر الوطني، فتذمروا منه وابعدوه بجرة قلم واليوم يتواثق أهل المؤتمر الوطني على الإصلاح الذي بنى عليه فخامة الرئيس البشير خطابه التاريخي.. اذاً لاخلاف الآن مع رئيس حزب (الإصلاح الآن) ومن ثم على الحزبين القديم والجديد أن يعودا لبعضهم البعض..! بل وارجو أن يرتفع سقف الرجاء الي عودة المياه الي مجاريها بين حزب المؤتمر الوطني وحزب المؤتمر الشعبي، فالمفاصلة والإبعاد والابتعاد أصبحت أدوات عقيمة تهدم ولاتعمر.. ويالقلبي على الوطن الذي هو احوج للوفاق الوطني آكثر من أي وقت مضى.. خاصة وان البلاد تواجهه تحديات قاصمة للظهر خاصة التحديات الاقتصادية التي اذا لم تعالج فانها حتماً .. حتماً ستقود الي التهلكة وكارثية الدولة الفاشلة. كما دعا خطاب فخامة الرئيس عمر البشير الي ضرورة ان تصبح الوثبة الوطنية ممكنة وبالغة مقاصدها نحو تحقيق السلام العام، والسلام الاجتماعي والمجتمع السياسي الحر والخروج بالمجتمع السوداني من ضعف الفقر الي أفق اعداد القوة المستطاعة النابعة من انعاش الهوية السودانية التاريخية ،التي أسس لها بعانخي وتهراقا وشبكة وشبتاكا قديماً وحديثاً الهوية التي أسست لها الحركة المهدوية التي قادها الامام محمد أحمد المهدي ومشى على هديها الامام الصادق المهدي.. وحديثاً جداً يتواثق معها الشيخ الدكتور حسن الترابي الذي ما كان يوماً بعيداً عن ايقاعات النبض الوطني. انها تلك الهوية التي حتمها علينا وجودنا في افريقيا، وهذا لايتنافى مع وجودنا في كل عربي وافريقي والاقبال على احداهما باستثناء الآخر فهذا يعد عقوقاً والزهو بأحدهما دون الآخر يعد غروراً .. كما ان الانتفاع باحدهما دون الآخر حماقة وجاهلية كبرى في الزمن الاسفيري الذي حول العالم الي غرفة وليس قرية .. غرفة نوافذها مشرعة على كل المعارف الانسانية، بل واصبح الانسان نفسه انساناً عالمياً ، وذلك بعد ان تحطمت الحواجز والفواصل على كوكب الأرض بفضل التلاحم والتلازم والتواصل الاسفيري. والقول: إننا الآن احوج من اي وقت مضى للتوافق وجمع الشتات، حيث إنقضى ربع قرن من الزمان! ونحن في حالة شد وجذب، دون التوافق حول قضايانا المصيرية.. التي ينبغي ان لانرمي حملها على عاتق الدولة وحدها وانما علينا اقتسام المسؤلية مع الدولة حتى ينتظم دولاب الدولة، وتدب الحياة في جسد اقتصادنا الوطني، وذلك بزيادة الانتاج والانتاجية.. ولن يتحقق ذلك الا بالانعتاق من مخلب الدولة المستهلكة.. وعلينا جميعاً ان نضع خطاب الرئيس في اعيننا وذواكرنا.. وعلينا ان نتعامل مع خطاب فخامة الرئيس البشير على انه قيدومة تمهد لتحقيق أشواق الجماهير.