لا اظنني اطلعت من قبل على وثيقة اكثر مصداقية من وثيقة استراتيجية القطاع المطري التقليدي التي تم الفراغ من اعدادها في شهر اكتوبر من العام 2013م بعد جهد تواصل لما يفوق العام وهو جهد مشترك محلي ودولي فمحلياً ابتدرها مركز مأمون بحيري للدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية في افريقيا بالتعاون مع الأمانة العامة للنهضة الزراعية برعاية ومباركة من وزارتي المالية والاقتصاد الوطني والزراعة والثروة الحيوانية والغابات. وقام المركز بالحشد لاعداد أوراق العمل الخلفية للاستراتيجية نخبة راسخة ومتمرسة من حملة رفع الدرجات العلمية والخبرات. لا يقل عدد المشاركين عن 20 خبيراً. واردف ذلك بعقد «5» ورش عمل، أربع منها في مواقع النشاط الحقيقي للقطاع المطري التقليدي في كل من سنار، نيالا، القضارف والابيض والخامسة بالعاصمة القومية. تم الاستماع من خلال الورش وبكل شفافية لهموم وافكار وآراء ومقترحات ما لا يقل عن 1000 من المشاركين ممثلين بكل من لهم صلة بالزراعة الحقلية والحيوانية والغابية والبيئية من ممارسين ورسميين ومن رجالات القطاع الخاص. اما على المستوى الدولي فقد تمثلت مشاركة الصندوق الدولي للتنمية الزراعية «الايفاد» بتمويل الاستراتيجية بحدود 473.000 دولار امريكي. واقناعاً بجدية هذه الاستراتيجية ففي النية ان تتبناها منظمة الايفاد و ادراجها ضمن خطتها المسماة برنامج الفرص الاستراتيجية القطرية، هذا فضلاً عن ان الاستراتيجية قد تلقت في مرحلة احكام الصياغة النهائية دعماً فنياً من خبراء دوليين. سلطت الاستراتيجية الضوء على المشاكل التي تكتنف هذا القطاع بالرغم من اهميته البالغة ومساهمته التي لا تقل عن 15% من الناتج المحلي الاجمالي الا ان تجاهله في اطار سياسات الدولة ونسيانه جعله بؤرة من بؤر الصراعات والاحتراب والنزوح وزعزعة الامن. ولو اتجه الاهتمام به لخفف كثيراً من حدة الفقر ولكان مصدراً رئيسياً لتوفير حاجات الغذاء ومدخلات الصناعة وروافداً من روافد الصادر التي تعيد للاقتصاد القومي توازنه الداخلي والخارجي.ركزت الاستراتيجية ايضاً اهتمامها بالتحليل والتدقيق في كل عناصر ومكونات القطاع المطري التقليدي وتقدمت بالمقترحات اللازمة لتحريك هذا القطاع والنهوض به في المدى العاجل والآجل في صيغة خطة تنفيذية وفق برنامج زمني محدد مع بيان التدابير اللازمة للتنفيذ وتحديد الجهات المختصة ومصادر وتقديرات الاحتياجات المالية الضرورية. وبتكامل هذه العناصر سيصير بالامكان رفع معدل انتاج ورفع معاناة مواطني القطاع المطري التقليدي بصورة محسوسة. ما دفعني حقاً للكتابة عن الاستراتيجية ان الطموحات التي اشتملت عليها -كما ذكرت- من مواقيت محددة فيما يتعلق بكل من الخطة الاستراتيجية للتنفيذ والتدابير المتعلقة بالاستثمارات خلال فترة تبدأ من يناير 2012 لتنتهي في ديسمبر 2013 فإن كليهما قد تجاوزه الزمن. وبما «ان ما لا يدرك كله لا يترك جله» ففي تقديري ان ادنى الطموح ان يبدأ التحرك قبل توالي ضياع الفرص الثمينة بتطبيق احد عناصر حزم استراتيجية في مجالي الزراعة الحقلية والثروة الحيوانية، وبتدابير ليست مستعصية على المعالج، لتلافي بداية الموسم الصيفي فيما تبقى من الاشهر الخمسة القادمة. فإذا علمنا -مثلاً- ان إدخال عناصر البذور المحسنة لوحده لكل من محصولي الذرة والسمسم كفيل بزيادة الانتاجية بنسبة تتراوح ما بين 30-40% حسبما أوردته الاستراتيجية من خلال تجارب ناجحة في بعض مناطق القطاع وأن تحسناً مشهوداً يمكن أن يحدث بتوفير الأدوية البيطرية بالنسبة للقطاع الفرعي للثروة الحيوانية. فإنه ليس من المستحيل انشاء محافظ مالية تشترك فيها وزارة المالية والقطاع المصرفي وخاصة البنك الزراعي السوداني والبنك المركزي على ان يجري بالتوازي مع هذه الخطوة ايجاد الضمانات الكافية ونشر المعرفة بين المستفيدين عبر تكثيف النشاط الإرشادي مع التوسع في برنامج حصاد المياه كري تكميلي مساند في حال نقص الأمطار. وفي ذات الوقت أن توالي جهات الاختصاص التي اقترحتها الاستراتيجية وبخاصة برنامج النهضة الزراعية بحكم انه يشمل التمثيل المناسب قومياً وولائياً توالي عمليات تنفيذ حزمة الاصلاحات من القضايا المؤسسية، والاخرى تتعلق بطرق الحصول على الائتمان والتمويل الزراعي، تحرير الاسواق، اصلاح سياسات الأراضي والاستثمارات الداعمة للخدمة الزراعية والتعرف على التجارب التنموية الناجحة. ومعلوم ان هذه الاصلاحات تتفاوت من حيث المدى الزمني بين قصير، متوسط- وطويل المدى وتعول الاستراتيجية على الأخذ بكل مكوناتها كحزمة متكاملة لا يتم الأخذ ببعضها وتجاهل الاخرى إن كان لابد من ان تجني ثمارها. وعندما اقترحت ان تكون نقطة البداية توفير البذور المحسنة للحاق بموسم الصيف القادم فلو اننا فقط نجحنا في تحقيق ذلك وحصلنا على نسبة التحسن المنتظرة في الانتاجية والمقدرة بنحو 30-40% لكان هذا بحد ذاته دافعاً قوياً للمضي في تنفيذ المكونات الاخرى للاستراتيجية وفوق كل ذلك لكان ذلك بمثابة بالونة اختبار جدية لتوفر الارادة السياسية، وصدق العزم، لتنفيذ الاستراتيجية. ومن المتصور ان يكون كل الذين شاركوا في اعداد هذه الاستراتيجية وبهذا القدر من الهمة متطلعين لرؤية ثمرة جهدهم في مواقع الحدث ومن باب اولى المزارعين بكل فئاتهم. وإن كان قد تم تسويق هذه الاستراتيجية بالقدر الكافي في كل المحافل!! فهل هذا الصمت الذي أعقب صدورها يعني انها قد لاقت ذات المصير الذي لاقته سابقاتها بطمرها تحت اكداس الأوراق المنسية؟؟ اخشى ان يكون ذلك قد حدث بالفعل.!!لقد كان المأمول ان تتضافر هذه الاستراتيجية ومثيلة لها بالنسبة للقطاع المروي ليعملا معاً لتحقيق ذلك الهدف الذي ظلت تلوكه الألسن منذ سنوات طوال حتى غدا مصدر سخرية بأن «السودان هو سلة غذاء العالم». وكحد ادنى دعه يلبي طموح واشواق العالم العربي فقط والتي تم التعبير عنها في مؤتمر المجلس الاقتصادي في الجامعة العربية في الخرطوم في الآونة الأخيرة.