هنا وفي خضم أشواق التواصل عن بعد، سعدت أيما سعادة وأنا اطلع على كتاب جديد صدر في الخرطوم، ووصلني علي التو.. عنوانه لافت للإنتباه، فحمدت ذلك لهذا الزمن وقد قل فيه الاطلاع، واستحوذت الشبكة العنكبوتية جل اهتمامنا بنظام المرور السريع علي ما يكتب وفي حدود ما تلتقطه الأعين العجولة في ايقاع سريع يتناسب وايقاع العصر. الكتاب مائدة شهية متنوعة الاصناف تتميز بخفتها على الروح والعقل والوجدان معاً.. جاءت حافلة بشتى ضروب المعرفة..مائدة تنم عن ثقافة عالية تمتع بها الكاتب وراح ينثرها كالدرر هنا وهناك بين يديَّ سفره الطيب هذا. الكتاب فيه تناول مختلف، عنوانه(خيرًا يره) مؤلفه الدكتور عبدالسلام محمد خير..الاستهلال بمقدمة عنوانها في ظلال آية هذا نصها«فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره» من سورة الزلزلة. وهي ذات الآية التي قيل إن الشيخ فرح ود تكتوك حينما جاءه مجموعة من العلماء لتفقيهه وفي ايامه الأولى وفي جزئه الأول(الثلاثون) من المصحف الشريف وعند الزلزلة، وفي هذه الآية المباركة والتي تليها «ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» أجاب معلميه بأنه يكتفي بهذا القول الكريم من الذكر الحكيم، بحيث أنه يلخص له كل مايرجوه .. زبدة القول .. وصدق رسول الله «ص» حينما قال «الزلزلة نصف القرآن » .. إبتدر الكاتب كتابه أيضاً بطائفة من هدى رسول الله «ص» الكريم تبارك موضوع الكتاب وهو الإنفاق والتواصل بين الناس ختمها بقول خير الانام صلى الله عليه وسلم الى عائشة«ياعائشة بيت لاتمر فيه جياع أهله ».. تذكرت هذا الحديث الشريف وانا منهمك في جمع النواة من تميرات كنت أحضرتها معي من مدينة رسول الله «ص» حدثني بائعوها بأنها عجوة مباركة دعى عليها رسول الله «ص» وهي سوداء اللون لينة حلوة الطعم غالية الثمن . كنت آكلها وأبنائي تبركاً بحديث الرسول«ص» وأجمع النوى «الحصى» لأقوم بزراعته بمزرعتي بالغابة. الكتاب صيغ بأسلوب شيق، وسرد معتدل، يأتيك بجرعات من العلم والثقافة، وطيب القول والعبارة الرشيقة، وكيف لا وكاتبه استاذ متمكن في اللغة والبيان ومهذب في تعبيره، يجبرك بأسلوبه السلس على المتابعة حتى سطره الأخير من الكتاب. ويناقش في متن الكتاب اشكالية الثقافة بين الموروث والمكتسب من ثقافات الغرب وكأنه يذكرك بالذين يتأبطون بثقافة الغرب بعد عودتهم لبلادهم متمسكين بقشورها فلاهم بقوا على ارثهم ولاهم احسنوا نقلهم لتلك الثقافة .. ولعلهم هم الذين عناهم استاذنا بروف عبدالله الطيب عليه الرحمة في بعض مؤلفاته والاستاذ منصور خالد في كتابه «النخبة وإدمان الفشل».. وتلحظ قارئي الكريم تسلسل الافكار، وترتيب الموضوعات الذي يوحي بخلفية راسخة للكاتب، ومرجعية لا تفرغ من الذخيرة المعلوماتية المدعومة بطهر ونقاء وفقه وحسن أدب وعبارة. تحدث عن اسلمة النظم المطبقة وربطها بواقع العلم والتكنولوجيا اليوم، والاستفادة من التجارب التقنية الحديثة، في حل المشكلات المعاصرة، وتسخير نتائج البحث العلمي لتطوير الأداء في المجالات المختلفة. وربط كل ذلك بالكلمة الطيبة الحسنة من أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام «تبسمك في وجه أخيك صدقة» و(يسروا ولا تعسروا) ثم افرد حيزاً كبيراً للخيرات والتسابق نحوها والمنظمات التي تتولى امرها . فتوقفت عند ذكره للراحل الاستاذ محجوب عبدالحفيظ وهو يتولى مشروع «الصلات الطيبة» بالتلفزيون القومي ومن بعده البروفسور فيصل مكي عليهما الرحمة جميعاً فكم أحسنوا لهذه الشريحة المستضعفة، وأدخلوا السرور والسعادة الى صدورها، وقد سبقهم في ذات المجال الكاتب المصري مصطفى أمين عليه الرحمة . وهزتني بالكتاب مشاهد شتى منها واقعة إهداء والي دارفور في عيد اليتيم سيارة تاكسي جديدة لأسرة فقيرة يتامى يعمل عائلها (اليتيم) بغسيل السيارات! ثم يتسلم مفتاح السيارة الجديدة ليجوب بها المدينة وأمه ترافقه وأخوته اليتامى ثم ينخرط بعد ذلك مسترزقاً منها . وكأن الوالي يعمل بالحكمة التي تقول(علمني الصيد ولاتعطني سمكة). وجاء الكتاب محتوياً لعدة محاور تكاملت جميعها في الخيرات من ذكر لأوجهها وسرد لمواقف منها وتشجيع على فعلها متمسكاً بخيط رفيع من السلف الصالح في الاسلام وبالجانب الآخر غطى دوره كإعلامي متخصص في ذات المجال «الاعلام الدعوي». فأحسن كثيراً فيما ذهب اليه . ولا يفوتني على أن اتحدث عن الكاتب وخلفيته وتربيته الاسلامية البسيطة بمجتمع القرية (بالغابة) ومسيد حاج بلول جده والذي يعتبر قلعة من قلاع ومنارات التعليم الإسلامي في بداياته بالسودان قبل سبعمائة عام هجري جاء الى المدينة بكل عفاف وطهر تلك البيئة، وأمضى سنوات بالمدينة واطوارها يعمل فيها اعلامياً وصحفياً وادارياً مسنودًا بالمنبت الطيب.. بشوشاً متواضعاً .. ليأتي مؤلفه هذا من قبيل ما يكتب له باذن الله في ميزان حسناته بما حوى من كلام طيب يذكرك بفضل(الدال علي الخير). انه مائدة طيبة يحلو تناولها بما حوت، ولا أفسد للقاريء متعة الاستمتاع بكتاب يستحق أن يقرأ، انه اضافة للمكتبة السودانية. والكتاب لا يخلو من هنات وثغرات قد نتفق أو نختلف حولها لكنه في مجمله يعتبر سفراً طيباً وقولاً حسناً يغذي المكتبة السودانية، ويشبع طموح القاريء في الجانب الذي تناوله. اتوقف عند بعض المآخذ التي أراها في الكتاب ولا أدري كيف فاتت عليه كإستخدامه لكلمات غربية مثل(الفهرس) والتي تعني قائمة المحتويات، وبعض الأخطاء الطباعية الاخرى. كذلك ماجاء بالكتاب من اطراء ومدح لبعض الجهات أو الشخصيات وإن كانت من وجهة نظره الشخصية لكنها قد لا يستحسنها القاريء .. اني أراها من باب«الاعلام الموجه» لكنها لاتفسد للود قضية، ولا تقلل من القيمة العلمية للكتاب، والموضوعية التي تسود صفحاته.. انما أحسب ان تجاوزها أو الأعتدال في تقييمها من جانب الكاتب كان سيزيد من إيجابيات الكتاب، ويبعده عن دائرة التحيز.. أكرر سعادتي بالاطلاع على هذا الكتاب الثر الجامع وأدعو مخلصاً إضافته لكل مكتبة. واختم بخاتمة (د.محمد السيد الخير(.....الكتاب جيد، ولهجته صادقة، وهو يوميء الى تجارب ثرة، ويؤرخ لجوانب عديدة في النشر) .. إن الخرطوم الآن تكتب وتطبع ايضاً فضلاً عن انها تقرأ، والحمد لله، وهو المولى ونعم النصير.