الأرقام لا تكذب!! ولكن الساسة يكذبون!! يقبحون الأشياء!! أو يجمّلونها!! الأرقام هي نتاج عمل دؤوب من البحث والرصد والاستقصاء والصبر حتى الوصول «للحقيقة»!! والسياسة عكس ذلك!! تهريج واشاعات وتسرع لقلب وجه «الحقيقة» أرقام الجهاز المركزي أمس كانت واضحة وضوح الشمس وجاءت في خط «مواز» لأحاديث السياسة!! تعالوا نجري عملية «تحليل مضمون» لواقع الفقر في السودان ومؤشرات ودلالات الأرقام التي حواها التقرير الذي اهتمت به كل صحف الخرطوم وأبرزته على صدر صفحاتها الأولى ليزاحم أحاديث «الاستفتاء» والوحدة والانفصال والجريمة وأسعار الدولار «والين» في بنوك «وصرافات» وشوارع الخرطوم!! 46% من سكان شمال السودان فقراء!! أي أن نصف السكان في هذا الشمال فقراء مُعدمين!! هذا الشمال الذي يعتقد البعض أنه يقع على بحر الشمال أو شمال المتوسط!! فإذا كان هذا حال هذا الشمال فلماذا كل هذه الدعاوى عن «التهميش» ومن «البهتان» والاتهامات الجائرة بأن هذا الشمال يملك كل «شيء» وعنده كل «شيء» ولا يعطي الآخر أي «شيء». المواطن في الشمال فقير ومعدم ولا يتعدى متوسط استهلاكه الشهري 148 جنيهاً!! ومع ذلك يعتقد البعض أن هذا الشمال يعيش على مقربة من الدول الاسكندنافية!! الأرقام لا تكذب ومع ذلك كدنا أن نصدق أن هذا الشمال «غني» بما فيه الكفاية والسبب كل هذه الأبواق وكل هذه الأصوات الكبيرة «والحلاقيم» التي تصيح كل يوم وتشق الجيوب وتلطم الخدود على هذا الشمال الظالم!! لسنا في محطة الجهوية!! ولكننا في منطقة «المنطقية» والبحث عن الحقيقة التي تقول إننا في هذا البلد الكبير المنكوب كلنا في الفقر سواء!! وكلنا في الفقر شركاء لا أجراء!! وكلنا فقراء «ومُعدمين» ولا نملك فكرة أو رأي أو خيال لنبحث معاً عن أسباب الغنى في هذه الأرض الغنية ولكننا أدمنّا جميعاً البحث عن أسباب الفقر في هذه الأرض المعطاءة .. نتقاتل ونحمل السلاح في وجه بعضنا البعض ونتحدث كذباً عن «الثروة» و«السلطة» والنتيجة هي هذا الفقر المدقع الذي نعيشه اليوم في كل شيء!! نحن اليوم فقراء بكل ما تحمل الكلمة من مقاييس ومعنى. فقراء في «الوطنية» وفقراء في «الايثار» وفي «الحب» وفي «التسامح» نبحث اليوم جميعاً عن وطن ضائع ووطن تائه ووطن ممزق ووطن «ما عارف وين إقبل» .. فقراء نبحث عن وطن واحد.. وفقراء نستجدي العالم والناس من حولنا أن ابحثوا معنا عن حل لمشاكلنا التي فشلنا وعجزنا عن حلها!! إنه فقر وبؤس الفكرة نعم إن نسبة الفقر في الشمال هي ذاتها نسبة الفقر في الجنوب ولكن السؤال الذي يطرح نفسه من الذي أفقرنا جميعاً وأوصلنا إلى هذه المرحلة من الفقر والبؤس!!