أردنا في هذه السلسلة من المقالات عن المملكة المغربية والتي نشرناها خلال السنتين الماضيتين، أن نجيل النظر في التجربة المغربية ونستخلص منها الدروس التي يمكن أن يستفاد منها. كما نعيد التفكير في وضعنا الراهن سواء السياسي أو الاقتصادي أو الصحي أو البيئي.. الخ. ونقارن هذا الوضع المماثل له في باقي البلدان الافريقية المجاورة لنا وللمغرب وننظر إلى الفروقات، وما اسباب نجاح التجربة المغربية وفشل تجاربنا نحن؟.. علماً أن الكثير من الدول الافريقية في المنطقة لها من الثروات والموارد ما تحسد عليه مقارنة بباقي الدول. إن ثورة الاصلاح التي تبنتها المملكة المغربية هي ليست سوى وخزة لقادتنا الذين غضوا الطرف عن الفقر والتخلف داخل بلدانهم وامسوا منشغلين في بناء امبراطورية البحبوحة الفاسد بدل أن يكونوا من هادميه. وهذا ما وعدوا به الشعوب عند تقلدهم للسلطة أول مرة سواء عبر صناديق الاقتراع أو صناديق الرصاص، ليس هناك فرق، فقط انهم لم يكونوا صادقين في طرحهم. ففي الوقت الذي تشهد فيه الساحة العربية والافريقية موجات تغيير من أجل التغيير، رفع المغاربة شعار «نكون أو لا نكون» صوت موحد بنغمة عالية تحت قيادة الملك الشاب محمد السادس رافضين لمبدأ الديمقراطية التمثيلية التي استهلكت في البلدان العربية والافريقية مما أفقد جميع هذه الشعوب الثقة في حكوماتهم واحزابهم، واصبح القلق هو المسيطر على الحالة العامة في المنطقة. لقد حول القلق القدرة على التحمل واليأس من انتظار الذي يأتي ولا يأتي، إلى براكين ثائرة نافثة بحممها النارية في وجه القادة المغرر بهم، فتساقطوا الواحد تلو الآخر غير مأسوفاً عليهم. إن توجه القيادة المغربية نحو العمق الافريقي جنوباً وغرباً- بالضرورة- يساهم بصورة أو بأخرى في تشكيل العقلية السياسية لدى القادة سواء على المستوى العربي أو الافريقي. وبالتالي يضفي بنوع من الثقة والطمأنينة في العلاقة بين المواطنين تجاه قادتهم، وذلك على أثر تحول عقليتهم تجاهه عبر سياساتهم المختلفة. إن الهدف من شعلة «الأمل» التي حملها جلالة الملك محمد السادس وطاف بها البلدان الافريقية هو أن يحول الانسان القائد في المنطقة من انسان «اناني» إلى انسان «ايثاري»، وهذا يعني انه ليس بالبرامج المزيفة والخطب الجماهيرية المجانية، تبني الدول وتصان حقوق الشعوب. فالبرنامج الاقتصادي والاجتماعي الجديد لا يصنع الدولة، ولا الانسان، إن لم يتول هذا الانسان صنع نفسه بنفسه. وفي هذه الدوحة الملكية نجد تجليات الآية الكريمة «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» صدق الله العظيم. فإن لم يتعهد الانسان الافريقي والعربي بتجديد نفسه وتغييرها، إن لم يقم بذلك وفقاً للأصول الايديولوجية والقواعد الخلقية والمباديء النفسية التي تنادي باقتلاع الانانية الفردية من جذورها، لا يمكن أن يكتب لنا النجاح في اي خطوة نخطوها، وسنستمر «نلوك» التاريخ التليد ونعتاش على احلامنا الكاذبة طالما هذه النزعة «الانانية» متأصلة فينا. إن هذه المرحلة- التغيير- تتطلب من انسان المنطقة الافريقية العربية الايمان القاطع بأنه وليد عملية تغييره لنفسه تغييراً إرادياً واعياً، مبعثه الاعتقاد بأن الاعتراف بالأفكار الخاطئة هو المنطلق، وبأن النضال والعمل الدؤوب هو مفتاح النجاح لأي خطوة نحو التنمية البشرية والاقتصادية. لقد سعى المغرب وبعد طول غياب عن الساحة الافريقية إلى التوجه جنوباً لخلق شراكة ذكية تكون لبنة لخارطة طريق للفاعلين الاقتصاديين في المغرب والبلدان الافريقية، وذلك على أساس تعزيز أسس التعاون والتكامل «جنوب جنوب» وخلق قطب اقتصادي افريقي كبير يحقق التنمية ويلبي تطلعات الشعوب في المنطقة التي تنشد التقدم والانماء، فكان الهدف من هذه الشراكة، السعي إلى:- - تحقيق الكفاية في الانتاج الغذائي في المنطقة وجعل الفائض من مردود هذا الانتاج الزراعي المرتجى أن يدخل في عملية تكوين رأسمال انمائي. - التوازن بين الصناعات الثقيلة والخفيفة والتركيز على التربية المهنية والفنية للعاملين في اكثر القطاعات الرئيسية للمجتمع. - الارتقاء بالمستوى الاجتماعي للفرد في المنطقة بخلق فرص عمل عبر هذه الخطط والبرامج الفاعلة. وبالتالي تلقائياً ستنتفي اسباب الهروب الجماعي ودوافع الهجرة القسرية لابناء المنطقة. إن التجربة المغربية المغربية، والمغربية الافريقية لجديرة بالتأمل والاقتداء، إن الوعي بالمشاكل الحقيقية التي يعاني منها جسد الدولة- أي دولة- والإرادة الصادقة في البحث عن ترياق الحياة ليشفي بدن هذه الدولة، هو ما انتهجه قادة المغرب. إن التحديات الكبرى مثل بناء الطرق والجسور، وبناء السدود، ومحاربة البطالة وتأمين الصحة والتعليم لكل مواطن ورفع الاقتصاد بكلياته، تمثل ضغوطاً حقيقية ترشد القائد الحكيم- الوطني- إلى سلوك الطريق القويم المؤدي إلى الحل الناجع ليصل بشعبه إلى بر الأمان. إن اسباب فشل نخبنا السياسية هو تمسكهم بوجهات نظر فنية بيروقراطية ، هي مجرد تنظيرات لطالما تركنا أنفسنا منقادين ورائها قرن من الزمان لم نحصد شيئاً سوى الفشل المتكرر. إننا لا نعاني من نقص أو ندرة في الخبراء أو الفنيين، بقدر ما نعاني من آلام قروح سببتها لنا أغلال البيروقراطية البغيضة واحقاد سياسية دفينة اقعدتنا عن التقدم. لقد تعودنا مع مرور التاريخ على رؤية الأشياء من زاوية معينة، تلك الزاوية شكلت وجداننا حيث اصبحنا نرى الأشياء تبدو غير ما هي عليه في الواقع. إن الرضوخ للفقر والعيش علي حد الكفاف وعدم المقدرة على المبادرة الخلاقة، والتي اصبحنا نشاهدها متفشية كظاهرة عامة في بلادنا على وجه الخصوص، هي نتاج للاحباط واليأس المتراكم جراء الفشل المتكرر للنخب السياسية الذين تعاقبوا على السلطة بوعود تلو الوعود وبرامج مزيفة. لقد اصبح من العسير على الانسان في المنطقة العربية الافريقية أن يتصور التغيير العميق الذي نتحدث عنه والذي يشهده في الشمال «القطبي» أن يعيشه هو في يوم ما ويهنأ بمثله. لقد تعودنا رؤية الأشياء على هذا النحو، شمال متقدماً وجنوب متخلفاً، شمال غني وجنوب فقير، ولكن شعلة «الأمل» التي حملها جلالة الملك محمد السادس وطاف بها أرجاء افريقيا ربما تحمل آمالاً تفوق احلام تلك الشعوب.