ناولنا في الحلقتين السابقتين، الثغرات القانونية والعملية في التدابير والنظم المناط بها مكافحة الفساد الإداري والتنفيذي، وأشرنا إلى ضرورة سن تشريعات أكثر إحكاماً، خاصة في مجال تضارب المصلحة العامة مع المصلحة الخاصة، والذي نرى أنه أس البلاء ومدخل الفساد والإفساد. ولقد إتصل بي نفر كريم من المهمومين بالشأن العام، وأبدوا تعاطفاً وحماسة للفكرة، كما دفعوا بمقترحات، وأثاروا تساؤلات، وعبروا عن مخاوف ومهددات. ومن بين هذه المقترحات، السعي لتجميع كافة الأجهزة والمؤسسات العاملة في هذا المجال، في كيان واحد، يُمنح السلطات والصلاحيات الكاملة، ويُحمى بنصوص قاطعة وصارمة، وتوضع بين يديه الإمكانات المادية والبشرية اللازمة. ووجاهة هذا الاقتراح، تتضح إذا أدركنا تعدد وتكاثر الآليات الرقابية في بلادنا، وتضارب إختصاصاتها، الأمر الذي أدى إلى تشتيت جهودها وإضعاف دورها. فهناك القضاء الإداري، وإدارة الثراء الحرام بوزارة العدل، وهيئة المظالم والحسبة الاتحادية، ولجنة الحسبة بالمجلس الوطني، والإدارات ذات العلاقات في جهازيَّ الأمن والشرطة، وعشرات الآليات النظيرة في الولايات والمحليات. ومن بين التساؤلات، التي لا أملك لها جواباً، غض الطرف ولو مؤقتاً عن خطة إنشاء هيئة أو جهاز تابع لرئاسة الجمهورية لمكافحة الفساد، بعد إستقالة د. أبو قناية، وبالتالي توقف عملية إصدار قانون مكافحة الفساد، والذي أتيحت لي فرصة الإطلاع على مسودته، ومن الأمانة الإقرار بأنه- في رأيي- من أفضل التشريعات ذات الصلة، التي وقفت عليها، صياغة وسلاسة وقوة ومضاءَ، ولا غرو في أن يكون كذلك، إذ عكفت على إعداده ثلة من المختصين والعلماء والخبراء، كما عُرض على طائفة واسعة من أهل القانون وأصحاب الخبرة والدراية، واجتاز مراحل عديدة، من التمحيص والتدقيق والمراجعة والتعديل، علاوة على استصحابه للإرث السوداني في إطار الرقابة الإدارية، وتقفيه أثر التجارب الإنسانية، وخبرات الدول الأخرى. وربما كانت هناك دواعي ومبررات يعرفها متخذو القرار من حيث الطرح أو التوقيت أو التفاصيل، لكن المهم في الأمر في نهاية المطاف، أن تتواصل وتستأنف من جديد فكرة إنشاء آلية قومية لمكافحة الفساد، فذلك ينسجم مع توجهات الدولة المعلنة، ومع تصريحات قادتها، ومع أحكام الدستور والقانون، وهو يقدم دليلاً قوياً وعملياً على توفير الإرادة السياسية تجاه مواجهة مظاهر الفساد والسعي الحازم لمحاصرته، ذلك أن شأن الفساد لم يعد شأناً محلياً داخلياً، لكنه غدا أمراً يهم المجتمع الدولي بأسره، ويحظى بمتابعة وعناية من مؤسسات ومراكز متخصصة، تلاحقه، وتُصدر بين الفنية والأخرى تقارير وبيانات ترتب فيها الدول من حيث تفشي الفساد في أركانها، ولا يخفى على أحد الصدى الكبير والأثر البالغ الذي تحدثه مثل هذه التقارير والإفادات، وإنعكاساته على سمعة البلد المعني، وهيبة الحكم فيه، وإحترام أو إزدراء العالم له، فضلاً عن الاسقاطات السالبة لهذا التقييم على جذب الاستثمار الأجنبي، وإطمئنان رؤوس الأموال الحذرة بطبعها، والتي سوف تفكر ألف مرة قبل أن تغامر بالاستثمار في بيئة أو قصر، يجتاحه الفساد، وتضيع فيه الحقوق، وتنتهك فيه حرمة المال العام والخاص. إن تجارب بلادنا عبر الحقب السياسية المتعاقبة، في مجال مناهضة الفساد الإداري والتنفيذي، بدء من جهاز الرقابة العامة في مطلع العهد المايوي، والمراحل المختلفة التي مر بها هذا الجهاز حتى أصبح هيئة للحسبة والمظالم، وتجربة لجنة مجلس الشعب للرقابة الادارية، والكيانات والأجهزة الرقابية الكثيرة مثل لجنة استئنافات العاملين، والتي تحولت إلى ديوان العدالة، وهيئات الحسبة في الولايات، واللجان البرلمانية للشكاوى وحقوق الانسان والمظالم، كل هذه الآليات وبدون استثناء، ظلت تشكو من عقبة كؤود ومعضلة صعبة وصخرة تتكسر عندها كل الجهود لرفع الظلم وكشف المفسدين والظلمة ومحاسبتهم، وهذه العقبة تتمثل في ضعف قدرة الآليات المذكورة على فرض رؤاها وتنفيذ قراراتها، أي أنها جميعاً تعاني من غياب الناب والمخلب، ولإعطاء مثال واحد على هذا، أن الرئيس السابق لهيئة المظالم مولانا محمد أبو زيد إضطر للجوء للبرلمان مراراً ليشكو قلة حيلة جهازه، ويلتمس العون من النواب حتى يستطيع الجهاز أن يقوم بدوره، كما أن أجهزة رقابية أخرى مثل لجنة مجلس الشعب للرقابة الادارية، كانت ولقرابة العشر سنوات، تجأر بالشكوى والتبروم من عدم تجاوب الجهاز التنفيذي معها وبطء الرد على مكاتباتها، وإخفاء الحقائق والمعلومات عنها، وتفنن المسؤولين في استنباط الطرق والمبررات لعدم المثول أمامها.