شاءت إرادة الله أن تأتي زيارتي إلى حاضرة ولاية غرب دارفور مدينة الجنينة ضمن طواف الهيئة العامة للحج والعمرة لترتيب حج 1431ه مواصلة لمسيرة خليل الرحمن إبراهيم الخليل، حيث البداية على طريق الحج القديم، هذه المدينة كانت في يوم من الأيام جسر التواصل ما بين حجاج غرب أفريقيا والتواصل الاجتماعي لأمة الإسلام المتوجهة إلى بيت الله الحرام، عبر الطريق القديم المعروف بطريق الحج الأفريقي.. الجنينة دار أندوكة مازالت في الذاكرة، فارقتها والشعر في لون الدجى وها أنا أعود اليها اليوم، ولي فيها ذكريات حبيبة، وإخوة كرماء عشنا بين ظهرانيهم أثناء فترة عملي في بنك فيصل الإسلامي، ومازالت تلك الصورة الذهبية تراودني حيناً بعد حين، وهي قضة شابة قوية، ومن حسن الصدف وميقات الزيارة والخريف أسبغ نعماءها على الأرض. حطت بنا الطائرة عند مطار الشهيد صبيرة، وبين المطار والمدينة نستطلع آفاق الحياة على الطبيعة، على مسار الطريق ننشد الوصول لوسط المدينة، وأشد ما جذب انتباهي الامتدادات اللانهائية من المزارع المنتشرة على جانبي الطريق، وخاصة الدخن ممشوقة سيقانه، وممتلئة قناديله، أما الفول السوداني بلونه الأخضر الريان يجبرك على النظر، وتأمل صنع الخالق على أوراقه الندية وحباله، وهي في عراك مع بقية ما أنبتت الأرض. وبعد خمسة كيلومترات لاحت لنا على البعد ملامح عمرانية تدل على اقترابنا من حاضرة غرب دارفور، تغطيها المانجو، ولسان حالها يغرد بحلو الحديث الهامس، وتقول لناظرها هذه عروس الغرب عند حضن أخضر، يفوح منه شذى نوار المانجو الزكي، محفوظة من عند الله من كل مكروه، المدينة اكتسبت اسمها من الحدائق الغناء التي تتوسطها وتحيطها من كل جانب، كما يحيط السوار بالمعصم. حقيقة يتفاوت مستوى الرفاهية والعمران، والعيش والتواصل الاجتماعي من زمن لزمن، ولا يمكن مقارنة ما بين تلك الفترة التي قضيتها بالجنينة، وما رأت عيني عند الزيارة، الطفرة العمرانية والمباني متعددة الطوابق، ومسار الأسفلت يشق المدينة شرقاً غرباً ووسط الأحياء، ومن معايشتي خلال الزيارة تلمست الأداء البشري وفق منظومة من القيم والأخلاق، يقود الولاية الشرتاي الوالي جعفر عبد الحكم بوعي يسعى لمدارك الرقي والتقدم لشعب غرب دارفور، وما يميز الممارسة للحكم الراشد للأخ الوالي إيمان قوي بوحدة أهل دارفور، واستصحاب تاريخ كلي لمجتمع تتلاحم لحظاته، وتستمر وتتواصل لخلق عقل مجتمعي راشد، تجد شوكة الدولة قوية تبسط جناح الرحمة لأمة قاست الأمرين لسنين خلت، ودليل عافية حكومته مشاركة الجميع، وسياسة اليسر والتواصل بين أفراد الرعية، ودعوته رموز الولاية للمشاركة السياسية، ولسان حال الأخ الوالي للذين يقتلون البهجة، ويسرقون النسيم الهادئ، ويذبحون سرب الحمام، هل هذه أرضكم؟ ويختم الحديث أن هذه الأرض تسع الجميع، وعليكم بالوعي الوطني، ووعي الإنسان لنفسه بداية الحضارة. تجئ الحياة موعداً وتبقى المنايا لنا موعداً.. هكذا تغيِّب المنون رموز الأمة، وقد كان السلطان عبد الرحمن محمد بحر الدين سليل تلك الأمة، التي خلت مقاومة للاحتلال الفرنسي، ذاك الذي كانت حياته رحلة متصلة من النضال السياسي، وهم جمع الناس على قلب رجل واحد، لخلق مجتمع متحاب وطني، ومنَّ الله على العباد نجاح الأبناء، ولم يمت من خلف قمراً مكتملاً آخر، يلقي بياضه الناصع على أهله، والشكر للأخ السلطان سعد عبد الرحمن محمد بحر الدين رمز سلطنة المساليت ذات التاريخ التليد، والحاضر الواعد، هازمة الفرنسي الدخيل في درجيل، نشكر له دعوة الهيئة العامة للحج والعمرة للعشاء الفخيم، وزاد الطعام الحلو، والحضور النبيل للأخوة زعماء الإدارة الأهلية للمساليت تعارفاً ووصلاً من قبيي، وهبيلا، ومورني، وبيضة، رمزية هذا العشاء الفاخر تدل على أصل المعدن النفيس وهكذا تكون القيادة.ودعتنا مدينة الجنينة بأمطار نهاية الخريف، وكأنها تغسل أحزان المدينة، وتهيئها لموسم حصاد وافر، بروح تفاؤلية لمقابلة موسم الحصاد.على مدى الأيام التي قضيتها في هذه المدينة المفراحة، غمرني إحساس طاغٍ بأن أهل المدينة هم عائلة كبيرة، تعيش داخل أسرة بالوداعة، وحب التواصل يمشي بين الناس. سافر تجد عوضاً عمن تفارقه... وانصب فإن شديد العيش في النصب في الفؤاد ترعاه العناية.. بين ضلوعي الوطن العزيز