أهلنا في بربر يعانون الأمرين من المعاناة.. منها ما هو قاسم مشترك أعظم بين أهل السودان «الغبش».. فالحياة عموماً أصبحت طاحونة جيدة.. ناعمة الطحن.. لا تحتاج الى غربال.. وإعادة غربلة.. كما كنا نشاهد «حبوباتنا» يفعلن فكل شيء أصبح جاهزاً ومعبأ حتى طحن الإنسان.. فالمعايش ضنكة.. والخدمات متردية.. والاجواء- كل الأجواء ملوثة والأخبار- كل الأخبار محبطة واليأس مخيِّم على كل النفوس.. والناس تمشي ولا تدرك لأية غاية.. في هذا الجو الكئيب.. والمصيب بالكآبة.. نفتش عن التماسة عزاء، وانتزاعة ابتسامة.. علها تخفف عنا شيئاً من ألم.. فقد يئسنا من بارقة أمل. «عوض كلونيا» من ظرفاء بربر المعروفين.. نظيف الملبس.. يحفظ من العبارات ما هو منمق وجميل.. لا يهم إن كان يتناسب مع الموقف.. يهوى المايكروفون.. ينتظره الحضور بفارغ الصبر.. يتحفهم بما هو طريف.. وظريف.. ويختم حديثه موقعاً بالكلمات «عوض كلونيا».. كان مرة نائماً عندنا وخرج صباحاً مع زوج ابنتي الأستاذ ابراهيم عبيد المحامي من بحري الى الخرطوم، سكت طويلاً ثم التفت موجهاً حديثه لابراهيم.. والله يا أستاذ أنا ما خايف إلا من شيء واحد.. تهيأ ابراهيم بحكم عمله ليسمع أمراً يمت الى القانون.. ولكن عوض فاجأه قائلاً «أنا ما خايف إلا بكرة أموت الحالة دي تتصلح من وراي».. ضحك ابراهيم حتى ركن سيارته وقال.. يا عوض موت موتك الحالة دي لا بتتصلح ولا حاجة، يذكرنا هذا بصاحب أكوام التراب الثلاثة.. أيام النميري.. الذي كان يبيع الحكمة لمن يشتري.. فيقول عن الكوم الأول.. «الجمع قروش في الزمن دا جمع.. والما جمع الترابة دي في خشمه» ويكشح الكوم.. وعن الثاني البنى بنى والما بنى الترابة دي في خشمه.. وعن الكوم الثالث يقول المنتظر الحالة دي تتصلح الترابة دي في خشمه.. وأهلنا في بربر الخيرات يشكون هذه الأيام من الغارات العشوائية التي تشنها جحافل العقارب على الآمنين والتي راح ضحيتها من الأطفال.. وسهر جراءها الكبار والصغار.. والناس في حيرة من هذا الظهور المكثف للعقارب.. لا نقول إنها لم تكن موجودة من قبل ولكنها لم تكن بهذه الوفرة.. وكان الناس حتى الأطفال متعايشين معها.. ما جعلهم يربطون بينها وبين عملية التعدين العشوائي.. الذي بقدر ما أعطى من خيرات جر معه ويلات.. وسرطانات نعيذ اهلنا بالله الكريم منها.. وكانت جداتنا يقلن إن لدغة العقرب «عين» حسود.. وقصة قديمة عالقة بذهني منذ أن كنت بالمرحلة الثانوية.. كنت في العطلة ببربر.. وتقابلت في السوق بصديق كان عائداً من كسلا.. وعدنا الى حين معاً.. فالح علي أن أواصل واتغدى معه.. فوافقت.. وجيء بالطعام.. مازلت أذكره.. طبيخ «ملوخية» غاية في الطعم.. اعجبني كثيراً ولعلي أسرفت رفعت رأسي صدفة لاجده متوقفاً عند الأكل.. يحملق فيّ بطريقة ازعجتني وزاد الطين بلة أن قال «والله ما قايلك بتاكل كدا» رفعت يدي وقمت عن الطعام وكنا ونحن طلبة ثانويين نشتغل كثيراً بالاغاني أيام عزها ومجدها.. ولكل منا فنان أو أكثر يهيم بأغانيه.. ويزعم أنه عميد الفن.. وعميد الفن بالنسبة لي كان الأستاذ حسن عطية عليه وعلى جيله الرحمة.. احفظ كل أغانيه.. وأؤديها بطريقته بعيداً عن السامعين، محاولاً اخفاء الحروف التي كان «يأكلها» وكانت الاذاعة تقدم برنامج «ما يطلبه المستمعون» عصر كل جمعة.. وكنا نتابع الأغاني التي لا تقدم في اليومين السابقين للجمعة.. ونزعم أنها تقدم في البرنامج.. وكثيراً ما نصيب.. وفي مساء ذلك اليوم «الخميس».. وأنا بالمنزل ولم تكن الراديوهات متوفرة بالمنازل.. زيادة على أن جدنا - رحمه الله- كان يعتقد انها أدوات شيطانية.. وأن الاستماع اليها رجس من عمل الشيطان.. ليته شهد الآن ما بالبيوت من شاشات «ولاب توبات» وموبايلات.. وسائل عرض ومشاهدة واستماع - سمعت في مساء ذلك الخميس الفنان حسن عطية يغني من خلال راديو النادي القريب من دارنا.. فتحركت لأصل الى نقطة معينة.. لأتمكن من معرفة أغنيته حتى أحدد برنامج اليوم التالي.. وكانت جدتي وعماتي وشقيقاتي يسمرن في «الحوش».. وأثناء مروري أحسست اني وطأت على جمرة من النار.. فصحت «في جمرة هنا» ولكن جدتي اجابتني «سجمك.. ما تكون قرصت» قلت لا جمرة نار.. قالت.. ما في نار هنا دي عقرب.. فتشوها.. اقتلوها.. فقد كان في اعتقادهم أنها إذا قتلت.. يفسد مفعولها.. ولما لم يعثروا عليها قالت.. الحقوه بالليمون قالوا ما عندنا.. قلت لهم الليمون عند فلان «مضيفي قالت إنها عقرب شافية.. «لسانو تقل» وتصبب جسدي عرقاً.. قالوا احضروا له الممرض ابراهيم يعطيه حقنة «مصل».. ولما وصل وجدني في حالة صعبة جداً.. فقال إن السم قد سرى في جسده ولا يفيده المصل.. وجاء صاحبي مع الليمون.. مكسور الخاطر.. فقد كانت ثقافته «العين» معروفة ولكني لم أخبر أهلي بما كان منه في الغداء حتى لا أثير فتنة، ولم أشر الى ما حدث له أو لغيره.. إلا لكم الان.. مع أني قضيت اسبوعاً كاملاً لا اقوى على وضع قدمي على الأرض.. وكان يتردد علي.. جزاه الله خيراً.