ü قرّاء «الاضاءات» الراتبون لابد يذكرون ما كتبناه هنا عن مهرجان البركل الدولي للتراث والثقافة والسياحة قبل عدة شهور، حينما ابتدر الفكرة نخبة من أبناء الولاية الشمالية الخيِّرين الذين عزَّ عليهم أن يروا تلك الثروة وكنوزها التي خلّفها الأسلاف ترقد دارسة يتراكم فوقها وحولها غبار القرون والعجز والتجاهل، بحيث يصحُّ على الجميع لوم «القادرين على التمام» الذي هو أبشع ألوان الذم والتقريع. مبادرة أهلية اشعلت شمعتها تلك النخبة العارفة بمكنونات أرضها وميراث شعبها فانداح ضياؤها حتى وصل إلى عرصات الدولة ودواوينها فرحبت وتحركت باتجاه الفعل بعد طول ثبات تتحسس الطريق ممسكة بيد المبادرين استحساناً وتشجيعاً، حتى أصبحت الفكرة قاب قوسين أو أدنى من التحقق، لتفيض خيراً وبركة على وطن في مسيس الحاجة لهكذا مبادرات وأفعال. تاريخ يمتد بانسان السودان إلى أكثر من عشرة قرون من قبل ميلاد السيد المسيح، قام على التشييد والعمران فيه رجال من أمثال بعانخي وشباكا وتهاركا وتانوت آموان فأسسوا الممالك الناهضة والعابرة للأقطار ومدوا نفوذهم وتأثيرهم الحضاري حتى مصر وفلسطين والعراق واليمن شرقاً وحتى تشاد ومالي وغانا غرباً وتسيّدوا العالم القديم.. كل ذلك ظل مطوياً في غيابة النسيان، لأن أهله قد نسوه وجهلوا بما بين أيديهم وتحت أقدامهم جراء الكسل والتواكل.. نسوا قصور نبتة ومعابد البركل وأهرامات البجراوية ونوري ومدافن الكرو، بل نسوا هِبات النيل الذي اكتفوا فيه بالجروف وقليل من التمر ومزروعات تسد بالكاد الرمق واكتفوا من الغنائم الكبرى بالكفاف الذي يحفظ الحياة لا أكثر. نحن الآن على بعد شهور لا تزيد على الستة لانبجاس فجر جديد يضيئ عتمة القرون الطويلة ويحقق لانسان الشمالية خصوصاً والسودان عموماً بعض الوعد المرتجى لأمة لا ينقصها سوى الإرادة والعزم على عرض جواهرها ومكنوناتها الثمينة امام العالمين.. فجرٌ يستثمر الماضي في اغناء الحاضر وإثراء المستقبل. ثلة المؤمنين بقدرات وطنهم وأقداره رتبوا كل شيء، حتى يبدأ الوعد المضروب ل«مهرجان البركل الأول» مع خواتيم العام الحالي.. ففي الخامس من ديسمبر سيسجل التاريخ بداية عهد جديد يصحو فيه «الجبل المقدس» من رقدته الطويلة ويفرك عينيه مستقبلاً زواره من كل حدب وصوب، ولتنطلق سباقات الهجن والخيل التي في نواصيها الخير، تحفها ايقاعات الدليب وأهازيج الطنبور المحتفية بالقادمين، الذين هم على وعد مع عشرة أيام أُخر، حافلة بكل ما يعمّر النفس ويبهجها من طرب ورقص وأشعار وسياحة صحراوية ونيلية وصيد في البر والبحر وألعاب نارية وصناعات ومأكولات شعبية تعكس فنون الحضارة العريقة في تظاهرة غير مسبوقة. الثلة المؤمنة التي قامت على المبادرة جوَّدت التخطيط للمهرجان أو «الحدث الدوري السنوي»، ولم تترك شيئاً للصدفة.. ففعاليات المهرجان تنعقد في طقس ديسمبر من كل عام حيث تنخفض درجات الحرارة بما يلائم الزوار الأجانب والمواطنين الذين يتوافدون من أرجاء السودان المختلفة.. يُدار المهرجان بواسطة «لجنة عليا» يعاد تشكيلها مع نهاية كل دورة وبعد إجازة الميزانية ومراجعة الأداء، لسد الثغرات واقتراح التطوير.. تعتمد الموازنة على موارد تساهم فيها الدولة والتبرعات والمعرض التجاري والرعاية الإعلامية لبعض بيوت المال والأعمال، بالاضافة إلى عائدات معرض الفلكلور ومساعدات المنظمات الدولية. كما راعت المبادرة البعد القومي بتمثيل كل ولايات السودان في المهرجان، تعميماً للفائدة. وحدد المنظمون هدفاً محورياً للمهرجان يتمثل في فتح الآفاق الاقتصادية وتطوير البنيات التحتية للسياحة بالمنطقة، وجذب رؤوس أموال للاستثمار في المجالات كافة، عبر طرح الموروث الحضاري للأمة في قوالب فنية وسياحية وإعلامية وثقافية جاذبة، وبحيث تصبح المنطقة قبلة للسياحة العالمية، من خلال أجنحة متخصصة تقام في مقر المهرجان للعرض السياحي- التراثي والتجاري والاستثماري وتوفير الخدمات الضرورية للزائرين من فنادق مجهزة بكل ما هو ضروري للراحة والترويح، ومن مسارح للموسيقى والعروض الفنية، وصالات لعرض المشغولات والصناعات اليدوية المحلية، ووسائل نقل كُفؤة وميسرة من وإلى جميع الاتجاهات في الولاية الشمالية وخارجها براً وجواً. باختصار، نحن في انتظار حدث كبير ستتردد أصداؤه ويمتد بآثره- كما نرجو- في جميع انحاء الوطن والأقليم والعالم إذا ما صح العزم من أصحاب المبادرة، وأوفت الدولة بما عليها من دعم وتشجيع وتيسير وتقاصرت البيروقراطية الحكومية عن خلق العقبات والعراقيل ووأد الاحلام. }}