ü يا سبحان الله.. الصُدف وحدها تجمعت وتراكبت لترزقنا هذه «الاضاءة» من حيث لا نحتسب.. صُدفٌ تستحق أن تروى لأنها هي التي عبّدت الطريق لأن يتخلّق هذا النداء الهاتف بمؤازرة الفكرة- المبادرة التي رفعها مشروع (المهرجان) دون أي تخطيط مسبق من جانبنا.. وفي ذلك ملمحٌ لدور (الأقدار) في تصريف شؤوننا ومصائرنا. ü صباح السبت زارني التشكيلي الهمام والفنان الشامل راشد دياب في منزلي الذي لايبعد كثيراً من مركز نشاطه ب«الجريف غرب»، ذلك حتى يساعدني في تلبية دعوة إفطار قدمها لي في اليوم السابق مع جماعة من «أصحابه» كما قال.. فخرجنا سوياً كلٌ على عربته، فتبعته حتى وصلنا ضاحية «بُرّي»، فانعطف شمالاً شاقاً طريقه وسط جمع كبير من الناس.. اعتقدت في البداية أن هناك مأتماً أو فرحاً اعترضه في طريقه الى حيث يقصد. ü لدهشتي توقف د. راشد بعربته وسط هذا الجمع وهبط، يسلم ويصافح، ويشير عليّ بأن أركن سيارتي وأنزل ففعلت مستسلماً ومتسائلاً: ما الخطب؟! أجاب ضاحكاً: هذه مفاجأة أعددتُها لك، إنه منتدى (أحباب في الله)، مشيراً إلى لافتة توضيحية عُلقت على حائط تمتد منه (راكوبة) واسعة يبدوأنها أقيمت على عجل من مواد قابلة للفك والتركيب. ü عرفني بسرعة على بعض أعضاء المنتدى وفي مقدمتهم الفريق (شرطة) حسن عبد الرحمن الشهير ب(حطبة) عميد المنتدى المقام أمام داره تماماً في مساكن الضباط ب«بري».. ودُعينا على الفور الى الجلوس على مائدة الطعام مع أناس ووجوه رأيتها للمرة الأولى.. كنت آكل قليلاً وأتلفتُ كثيراً علّيَ أفهم ما يدور من حولي. ü بعد تناول الإفطار جلسنا قرب الحائط حيث اللافتة التي كُتبت عليها عبارات دينية وأحاديث شريفة حول معنى (المحبة في الله) ودار علينا الماء والشاي.. فوجدتُ الى جواري من الناحية اليسرى فيلوثاوس فرج فتبادلنا السلام والمزاح.. بعد قليل جاءني من ناحية اليمين من فاجأني وسلم عليّ بالإسم وسألني إن كنت أتذكره.. رجل كهلٌ أخضر أشيب ممتلئ القامة قليلاً.. فارتُجّ عليّ وخانتني الذاكرة. ü عرّفني بنفسه قائلاً أنا «عمر شلبي»، التقينا آخر مرة في الأردن عندما كنت أنت هناك وسألت الملك حسين في المؤتمر الصحفي المتلفز وختمت سؤالك ب«أننا نريد أن نكون على نور.. ورد عليك الملك بأننا كلنا نريد أن نكون على نور يا أخ طه» ألا تذكر ذلك الموقف؟.. شد حديث شلبي من كانوا حولي- راشد وفيلوثاوس وآخرين- فحكيت لهم الحكاية التي جرت في ذلك المؤتمر الصحفي العالمي الذي عقده الملك حسين- عليه الرحمة- أواسط ثمانينيات القرن الماضي لتوضيح الخلافات الناشبة حينها بين منظمة التحرير والمملكة الهاشمية حول التنسيق ومستقبل العلاقات وما أثير حول أبعاد ذلك التنسيق و(الكنفدرالية) المقترحة وسؤالي للملك حول ذلك، والذي ختمته «بأننا نريد أن نكون (على نور) يا جلالة الملك»، وكانت الملكة نور تجلس الى جانبه، ولعجميتها بالميلاد اعتقدت بأن السؤال يتعلق بها ما أحدث لديها بعض الاستغراب وربما الاضطراب، فسألت صديقنا الأستاذ (موسى الكيلاني) مدير المطبوعات والنشر والسفير السابق بالسودان الجالس بجوارها، فشرح لها بأن العبارة تعني بالانجليزية We want to be en lightened -كما أبلغني لاحقاً- فهدأت الملكة، لكن الأمر انتشر في الضفتين الشرقية والغربية حيث يصل التلفزيون الأردني وذهب الخبثاء في تفسير العبارة بأنها (مقصودة)، ولكنها كانت من قبيل (الأقدار) ايضاً سبباً في التعريف بي ومساعدتي في مهمتي كمراسل ومدير لمكتب «الاتحاد» الاماراتية هناك. ü المهم استعدتُ مع شلبي تلك الذكريات، حيث كان هو وقتها في زيارة للأردن قادماً من العراق بوصفه رئيساً للجالية السودانية في البلدين.. بعدها طرح عليّ فكرة المشروع أو المبادرة التي يعملون عليها الآن ضمن كوكبة من أبناء الولاية الشمالية.. وهي (مهرجان البركل الدولي للتراث والثقافة والسياحة) وزودني، بينما كنت أهم بالمغادرة، بنسخة من المشروع عكفتُ على قراءتها فور عودتي الى المنزل. ü تعرّفِ ورقة المشروع مهرجان البركل الدولي للتراث والثقافة والسياحة بأنه: تظاهرة سودانية تتلاقى فيها الحضارة ممثلة في الآثار، والثقافة المحلية متمثلة في الانسان السوداني، ورأس المال الذي يتمثل في المؤسسات والبيوت التجارية، ليعمل الجميع في خدمة انسان المنطقة بفتح آفاق اقتصادية وتطوير أدوات وآليات السياحة بالتعاون الكامل مع حكومة السودان عبر الولاية الشمالية. وتقول الورقة إن مكان المهرجان هو الولاية الشمالية لتستوعب كل الأنشطة والبرامج المصاحبة للمهرجان وأن منطقة جبل «البركل الأثرية» هي المسرح الأساس لانطلاق فعالياته. وان زمانه سيكون في الفترة الممتدة من نوفمبر الى مارس من كل عام، وأفادني شلبي في اتصال لاحق بأنهم يستعدون لإطلاق الدورة الأولى للمهرجان في الحادي عشر من شهر أبريل المقبل- استثنائياً- إيذاناً ببدء هذا العمل والحلم الكبير. ü الهدف المحوري للمهرجان بحسب الورقة والخطة هو فتح آفاق اقتصادية وتطوير البنيات التحتية للسياحة بالمنطقة واستجلاب رؤوس أموال للعمل في كافة المجالات بالولاية الشمالية، عبر طرح الموروث الحضاري في قوالب فنية جذابة، وبتجنيد وسائل الترغيب السياحي والفنون بأنواعها والإعلام بأشكاله المختلفة والمعارض والندوات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وبابراز الموروث الثقافي لمنطقة مروي العريقة الممتدة جغرافياً على ضفتي النيل، مع استصحاب الأبعاد المحلية والقومية وحتى العالمية للمهرجان. وفصلت الخطة المحاور العملية لقيام المشروع من حيث التمويل والموازنة والأنشطة المطلوبة في مختلف المجالات حتى يتحول الحلم الى حقيقة. ü وجدت نفسي- من حيث لا أحتسب أيضا- متحمساً للفكرة وقررت (الاضاءة) عليها فوراً واتصلت بالأخ راشد ليلاً وطلبت منه أن يتبنى مركزه الثقافي التبشير بالمشروع والعمل عليه حتى يرى النور، وأفادني راشد بأنه عضو في اللجنة العليا للمهرجان وأنه على استعداد لبذل كل ما هو مطلوب في سبيل ذلك. ü ما أود قوله هو أن (مهرجان البركل) يجب أن يكون في المقبل من الأيام أحد هموم الدولة السودانية، بتحويل المنطقة الى قبلة سياحية جاذبة، بإقامة المنشآت الضرورية لاستيعاب المهرجان وزواره. ü مهرجان كهذا بما يتيسر له من ضروب السياحة بمختلف وجوهها (الثقافية والنيلية- الطبيعية والعلاجية) يمكن أن يكون مورداً اقتصادياً واستثمارياً هاماً، كما يمكن الاستفادة من الشهرة العالمية للمنطقة كأحد مراكز الحضارة النوبية- وأقدم الحضارات الانسانية- وهو ما تشهد به المنظمات الدولية المختصة كاليونسكو، التي يمكن أن تقدم مساعدات كبيرة وأساسية في الترويج لمشروع المهرجان إذا ما أحسنا مخاطبتها وتحريك قناعاتها المسبقة بجدوى الموروث الثقافي والحضاري للمنطقة. ü وأخيراً نخاطب سلطات (سد مروي) الذي قام قرب هذا «الخزان الحضاري» العظيم بالبركل، بأن يستفيد من هذا الخزان الذي لا يقل جدوى من «خزان المياه» الذي يربض ببحيرة خلف السد، استفادة تتأتى من الجذب السياحي الذي يقود الى تدفق المستثمرين ومن ثم الأيادي العاملة لأبناء (المديرية الشمالية) المشردين في الآفاق فتنمو من حول السد حضارة وعمران بشري يستعيد الماضي ليرفد به المستقبل، وحتى لاينطبق علينا قول أبو الطيب المتنبي ب«نقص القادرين على التمام».. فمهرجان البركل كفيل بإحياء شمال السودان المُقفر بأجمعه وليدرّ خيراً وبركة بلا حدود وتصح في حقه آية (الرعد): «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».. وجبل البركل بموروثاته مكث في الأرض لينفعنا.. ويا ليت قومي يعلمون! { تنويه: نعيد نشر هذه «الاضاءة» نظراً لما لحق بها يوم الاثنين الماضي من أخطاء ومشكلات فنية..