(خمسون قصّرت الخطى فتركنني أمشي الهوينا ظالعاً متعثراً).. العباسي الذي يصف نفسه بهذا الشعر الموحي لم يكن يدري أن السياق سيتجاوزه، ليصف حال وطن ظل يمشي الهوينا منذ أن استقل ليجد المآزق في انتظاره ، وليتقلب بعد ذلك في دوائر مفرغة من اللا نظام، وفوضى الأنساق التي تجلت في المساق السياسي المضطرب لأنظمة الحكم فيه ، من ديموقراطية هشة إلى إنقلاب مفضي لحقبة متطاولة من الحكم الشمولي ، إلى إنتفاضة مفضية لديموقراطية مختلة تارة أخرى لتنتظم الدورة العبثية من جديد.. لكن من قال أن أزماتنا المزمنة تكمن فقط في إضطراب النظام السياسي ، ماذا عن نواظمنا الاجتماعية والثقافية ؟ وماذا عن هويتنا وتصوراتنا الجمعية عن الذات وعن الآخر ؟ وكتاب مثير لجرهام توماس بعنوان »السودان: الصراع من أجل البقاء« يحلل فيه الفترة الزمنية ما بين 1984- 1993م بوصفها دالة جزئية على النسق السياسي الكلي لسودان ما بين الإستقلالين 1956-2011م، ومرد هذا ليس لتجانس الوحدة التحليلية فقط ، بل لإجترار الوقائع والأحداث ، وإعادتها لنفسها مع مراعاة فارق الوقت والفاعلين ، بيد أنه نفذ إلى خلاصة معيارية مهمة مفادها أن النظام التعددي هو الأمثل لبلاد التعدد، ومهما بلغ اليأس من الديموقراطية فهذا أدعى للإستزادة منها، وترميمها من الداخل، وأن الإفتراض النظري بضرورة التأهل لمصاف الديموقراطية هو افتراض معكوس، فالتأهل يكون عادةً من خلال الديموقراطية.. فالديموقراطية كما طفق يردد »تشرتشل« هي أسوأ أنظمة الحكم إذا استثنينا جميع الأنظمة الأخرى. الديموقراطية نظم وقيم ولا تستطيع آلياتها أن تعمل بمعزل عن مرجعياتها .. الديموقراطية مصفوفة متراكمة وصيرورة متراكبة تبدأ بالفرد ثم الأسرة ثم المجتمع وتنتهي عند الدولة.. تبدأ باحترام خيارات الفرد داخل أسرته ودعمها واحترام خيار الأقليات داخل الدولة .. وتوفير البيئة الملائمة للتعبير عن الذات في سياق المجموع .. حدث هذا في عصور التنوير الاسلامي .. حين وجد سلمان الفارسي نفسه من آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ووجد موسى بن ميمون اليهودي نفسه أحد كبار الفلاسفة الاسلاميين في عصره . والنفاذُ إلى أفق الحوار الوطني بذاتِ الرؤى القديمة، والعقليات القديمة، والأفكار القديمة، والطرائق العقيمة، التي ظلت تلقي بظلال قاتمة على المشهد السياسي السوداني، فلم تزده إلا تقدماً للوراء وصعوداً إلى الهاوية.. أقول إن النفاذ إلى القادم بما هو قديم لن يزيدنا إلا تشظياً وانفصاماً وارتكاساً إلى ذات الحمأة الجوفاء ولن يزيد الهوة، بينما هو كائن وما ينبغي أن يكون، إلا بوناً وعمقاً.. أو لا يكفي أن سنغافورة التي استقلت بعدنا بنحو عشر سنوات حصلت مؤخراً على الدرجة الأولى في مؤشر جودة الحياة على مستوى آسيا والحادية عشرة على مستوى العالم.. نعم أدرك كم أن الفارق بيننا شاسع وكبير، لكني أدرك أيضاً كم أن المفارقة مهولة بين امكاناتنا الكامنة، وعجز قادتنا ونخبنا وخبرائنا عن إجتراح مقاربة تضمّد الجراح وتوقف النزيف.. وأدرك أن مشكلتنا ليست في التواثق على دستور، أول من يخترقه هم حماته..!! كما أدرك أن الشريعة التي تعني في مداها البعيد ومدارها الأخير العدالة والحرية والكفاية، ومعايير الحكم الرشيد ليست هي مشكلة لأي أحد، طالما توافرت له كل أشراط المواطنة والإنتماء.. لكنني أدرك أننا نحتاج إلى إعكاس المبدأ الزيدي الشهير(تجوز ولاية المفضول مع وجود الأفضل).. لماذا نقدم المفضول ولدينا الأفضل .!؟ وعندنا أثر يقول إذا لم يسند الأمر إلى أهله فانتظر الساعة ، فليس أقل إذن من إعادة القاعدة الأثيرة إلى حيز التنفيذ،»الجدارة أولاً«.. وقبل هذا وذاك ضرورة الوصول إلى صيغة مرضية للإجابة على السؤال المحوري في مسيرنا الممتد، كيف يُحْكم السودان؟ هذا السؤال الذي كانت تتعمد النخب(الخبوب) في الإجابة الخاطئة عليه طيلة تاريخنا الغابر.. ذات النخب التي امتطت الفارهات واعتلت الأرائك الوثيرة، وظلت تستأثر بكل شيء وتحرم غيرها من كل شيء، دون أن تقدم لشعبها الصابر حدَّ الغيظ الحد الأدنى من كل شيء .. فقط الحد الأدنى لا غير..!الحد الأدنى من الصحة، الحد الأدنى من التعليم ، الحد الأدنى من الأمن، الحدالأدنى من العيش الكريم ، الحد الأدنى من الحريات.... ومع أني أعرف حجم النضوب الذي ضرب مخيالنا الجمعي، لكني ما زلت أرى في إستشراف أفق استراتيجي جديد يفي بمطلوبات نصف القرن القادم، أمراً لا محيد عنه، وما لم يتم ذلك بسلاسة ويسر فسنظل نتقلب في الحيرة ونرتوي من السراب.