لا يزال خريف هذا العام المدرار تتوالى أمطاره الغزيرة في كل أنحاء القطر، كما تشير التقارير وتنبؤات الجهات المختصة المتتالية عبر كافة وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، وكذلك النشرات الجوية والحديث عن مناسيب مياه النيلين التي فاقت مناسيب فيضانات عام 46 كما أنها تشير أحياناً إلى بعض الآثار الجانبية للأمطار والسيول ومناسيب ارتفاع مياه النيلين، حيث تم اجتياح العديد من القرى والمدن، وغمرت المياه الكثير من المنازل والبيوت والمرافق الأخرى، وجرفت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية ليس في الأقاليم وحدها، بل شمل ذلك ولاية الخرطوم التي شاهدنا العشرات من الأسر التي أصبحت في العراء بعد أن هدمت مساكنهم ومنازلهم، وأصبحوا مشردين بلا مأوى، شمل ذلك بالطبع حارات المدن (الثلاث) والأحياء العريقة. ü لعل مدينة أم درمان والثورات كانت الأكثر تأثراً وتضرراً وتعرضاً لهذه الكوارث الخريفية، ربما كانت ظاهرة تهديم المنازل والمساكن ضئيلة، إلا أن هناك ظاهرة احتباس المياه بكميات مهولة ومزعجة، فهناك حارات بحالها وخاصة مناطق غرب الحارات (الثورات)، حيث القرى والإمتدادات السكنية الشعبية والعشوائية التي ماتزال وحتى هذه اللحظة ميادينها، وشوارعها، ومصارفها، على قلتها والساحات، والميادين، وباحات المنازل، تحت رحمة هذا المياه الراكدة والأسنة الحبيسة، التي تحولت إلى برك متقطعة هنا وهناك، وهكذا الحال في كل حارات، وأسواق، وأحياء الولاية حتى لا نظلم محلية كرري في هذا الصدد. ü حيث بدأ يتوالد ويتكاثر في هذه البرك والمستنقعات الذباب بكثرة، والناموس، والبعوض، وفي بعضها تكاثرت الطحالب التي تنبعث منها الروائح الكريهة، وبرغم ذلك تحولت هي الأخرى إلى مرتع لعب بعض الأطفال، والصبية، والمشردين منهم والشماسة الذين حولوها إلى مستنقعات وبرك للاستحمام والسباحة برغم المخاطر والمحاذير. ü فمياه المصارف تغص بالزجاج المهشم، وتباين العمق والحفريات مليئة بالنفايات السامة والضارة، التي تُدلق في جوفها المتحللة والمجهولة المكونات والعناصر والمحتويات، مما يزيد من خطورة المجازفة التي يقدم عليها هؤلاء الصبية والشباب، والتي هي أشبه بالانتحار الجماعي الذي تمارسه هذه الشرائح من حيث لا يعلمون، دفعتني هذه المشاهد والمخاطر والمحاذير والهواجس إلى تسجيل زيارة عمل إلى رئاسة (محلية كرري)، القصد والدافع هو لقاء معتمدها الهمام السيد كمال الدين محمد عبد الله، لاجراء حديث أو تحقيق صحفي حول هذه المسائل الآنفة الذكر وغيرها من الهموم والشؤون التي تشغل فكر وبال مواطني الثورات. ü فالقائمة العالقة بالذهن طويلة وعلى رأسها النقاط المذكورة، بإضافة للأمن في هذه الحارات، الأسواق، والأحياء العشوائية، الانقطاع المتوالي لخدمات المياه والكهرباء، خدمات المواصلات، الطرق الترميم والترقيع أن لم نقل السفلتة والتعبيد، المخابز والأفران وتطفيف أوزان الخبز، حملات أبادة الذباب والناموس والبعوض، أسواق الخضر والفاكهة التي تفرش على الأرض مما يعرضها للتلوث، وبالتالي من خطر ذلك على صحة جمهور المستهلكين، وقد تبدي ذلك في الإسهالات والنزلات المعوية في أنحاء الولاية المختلفة، وليس وقفاً على كرري. ü المدارس والكتاب المدرسي وفوضى الأسعار وحمى جشع التجار، وكل صاحب سلعة في أنحاء تلكم الحارات والمناطق المنعزلة والقصية، حارات المئة وما بعد المئة وإنسانها البسيط المغلوب على أمره. ü جحافل عربات الكارو وما تفرزه الخيول والحمير من روث يملأ الطرقات والأسواق، والمنتشر أمام المطاعم والمقاهي والبقالات... إلخ، وأثاره الصحية المرتبة على ذلك، أي صحة المواطنين والمظهر العام غير اللائق بعاصمة السودان، ومدنها الثلاث، ومحلياتها المختلفة، وهذه الظاهرة ليست حكراً ولا وقفاً على محلية كرري ولكنها تعم كل أنحاء الولاية. ü الهجرة غير المرغوب فيها، ألوف الوجوه الغريبة التي تسد الطرقات التي شاركت الناس في الهواء، والماء، الغذاء مع قلته، ومع الأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة التي يمر بها السودان، المتمثلة في اللاجئين واللاجئات الذين أضافوا أعباء ثقيلة على الوطن وعلى جماهير شعبنا، والذين نالت المحلية المذكورة منهم أعداداً غفيرة. ü عند زيارتي للمحلية كان «المعتمد» يتأهب للسفر لأداء العمرة، وبعد عودته منها اكتشفت أنه بجانب عطلة الجمعة والسبت فهناك يوم الأربعاء الذي يُعقد فيه مجلس الوزراء الذي يستغرق كل اليوم.. ولكني لاحظت أنه يعمل خلال الأيام المتبقية من الأسبوع حتى الرابعة والخامسة مساءً، وشاهدت الأعداد الكبيرة من ذوي الحالات الخاصة، والمعوزين، والفقراء والمتضررين من جراء الأمطار والسيول، والسكن العشوائي، والمرضى، والمسنين، ونشاطات اللجان الشعبية، كل هؤلاء يشرف على معالجة قضاياهم، وتوفيق أوضاعهم بنفسه عبر معاونيه، هذا بالإضافة للعمل الإداري والرسمي اليومي، وشاهدته داخل مسجد المحلية يتدارس مع المصلين في أمور الدين وما قال الله ورسوله، واعظاً وحاثاً على التقوى، والورع، ومخافة الله، وداعياً للصدق مع النفس والأخرين، والبعد عن الرياء والكذب، ورايته هاشاً باشاً متبسطاً متواضعاً مع مرؤسيه والعاملين. ü واستوقفني ذلكم المبنى المقام بجوار المسجد شبه المهجور، إلاّ من بعض الأثاثات، والعربات، والمواتر، وغيرها، والذي تطل من عليه تلك اليافطة التي تقول (المنتدى الثقافي) الذي تحول كما اسلفت إلى مستودع لبعض الأدوات والمعدات. لقد أحزنني ذلك وكرري طليعة العلم، والفكر، والثقافة، والحضارة، والأداب، والفنون، والخلق، والإبداع، وكرري طليعة الفداء والوطنية والجسارة التي جسدتها تلكم المعركة رمز البسالة والقومية، التي شاركت فيها كل قبائل وجموع وكافة أهل السودان دفاعاً عن الوطن. ü وكرري بها آلاف الخريجين والكوادر الإدارية، ورموز الثقافة، وأعلام الإعلام، والصحافة، والتربية والتعليم، وكذلك الخبراء، والعلماء، والشعراء، والكتاب، والمبدعون في مجالات الفن، والدراما، الموسيقى، والمسرح، ورجال الدين والطرق الصوفية...إلخ. ü فهناك الكثير من علامات الاستفهام والأسئلة التي تبحث عن الإجابة من هذه الشرائح المذكورة، وأرجو أن يكون هذا بمثابة تحريك للبحيرة الساكنة، وحض لهذه الرموز وهذه الشرائح لتدلي بصوتها وبرأيها في أحياء هذا المنشط، وهذه المحلية ثقافياً وأدبياً وفكرياً وعلمياً وفنياً وسياسياً. ü و بدورنا نقول للذين يهمهم هذا الأمر لا تذهبوا بعيداً.. فأنتم على موعد مع ربان سفينة كرري «وقبطانها» الماهر الهمام في حوار وتحقيق صحفي مفتوح حر وصريح حول كل هذه النقاط والمسائل والأسئلة وغيرها على صفحات «آخر لحظة» قريباً بإذن الله. ü لأن كرري ومواطني كرري أصل ثابت وعميق الجذور في تاريخ السودان، فهم أهل كفاح وبر وعرفان وتضحيات، وإضافة، وفكر يدعون للسلام والوحدة والقومية النبيلة، وينبذون الأنشطار وعصبية القبيلة وعطاؤهم زاخر ومتصل. ü فهي أبداً للفداء، والبسالة، والريادة، ورمز للأباء والشموخ، والنماء، والوفاء، والصمود، ونلتقي بإذن الله.