في «إضاءة» السبت الماضي أشرت إشارة سريعة إلى خطاب الرئيس عمر البشير أمام المجلس الوطني الاتحادي يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، وقلت إن الفشل الذي واجهته مفاوضات الشريكين في أديس أبابا، يعتبر نكسة بكل المقاييس لجهود السلام، خصوصاً بعد الشمعة التي أوقدها الرئيس البشير في خطابه أمام البرلمان، وأكد فيه إمكانية مراجعة بعض بنود اتفاقية نيفاشا من أجل الهدف الأهم والأجل وهو وحدة البلاد. هذا الخطاب، وحديث البشير عن إمكانية المراجعة، وقع عندي بمثابة «مبادرة رئاسية» تصالحية غير مسبوقة، ودعوت الجميع لالتقاط معانيها وتطوير مبانيها، بحيث تصبح مفتاحاً لمخرج صدق للبلاد في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ الوطن. لحظات لا يصلح ولا يصح فيها «الكلام المرسل» ولا التخندق والتعصبات الآيديولوجية أو العرقية أو الجهوية. لحظات تتطلب الصدق مع النفس ومع الآخر، الآخر الذي هو الوطن والعالم من حوله، ولسنا في حاجة للاستزادة أو رصد الأنواء وهوج الرياح والسحب السوداء التي تغطي سماء الوطن. والمخاطر المحدقة التي تهدد مركبه وكيانه بالدمار والغرق والفناء. وهذا بالضبط ما يعطي هذه المبادرة وزناً استثنائياً، خصوصاً وهي تصدر ممن بيده مفاتيح الحرب والسلام والوحدة والانشطار، يضيف لأهميتها ويضفي طابع الجدية أيضاً أنها جاءت ضمن خطاب رئاسي أمام البرلمان القومي، ما ينزع عنها مظنة العفوية التي يمكن أن تلازم التصريحات العجلى أو الردود غير المحسوبة على أسئلة تطرحها أجهزة الإعلام والصحافة ولا يترتب عليها التزام مؤسس، كما هو حال الخطابات الرسمية التي تطرح للتداول أمام الأجهزة الدستورية والتشريعية منها بوجه خاص. فماذا قال البشير في ما أسميته «مبادرة» من أجل الوحدة، دعونا نعود إلى النص ونثبته حرفياً كما جاء على لسان الرئيس، وكما سمعه أعضاء الهيئة التشريعية. البشير بعد أن اعتبر أن ترسيم حدود وافٍ عامل حاسم في إجراء استفتاء نزيه وعادل، وأن توافق الشريكين على بلوغ حل يرضي أطراف النزاع في منطقة أبيي أمر حيوي لضمان استفتاء لا يفضي إلى تجدد النزاع، وبعد أن تعهد بالكثير الذي ينتظر الجنوب من تنمية وخدمات مما نرى تحقيقه واجباً وليس منَّة أو مزايدة، قال البشير ما يلي: «وتأسيساً على هذا التعهد الذي نقطع به - بكل طيب خاطر- فإننا نعرض ما يلي من التزامات، دعماً لمشاريع (التنمية السياسية والاقتصادية) في جنوبنا الحبيب، بما يرسخ الوحدة ويعززها، ففيما يتصل بالترتيبات الأمنية، فإننا على أتم استعداد لإجراءات مشتركة تُتمِّم ما أُنجز، وتمكن مؤسسات الحكم في الجنوب من تحمل مسؤليات الأمن في الإقليم كافة.. كما سنعمل على تطوير ما ورد في الاتفاق من مسؤولية الجيش الشعبي باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الجيش الوطني، تعزيزاً للتعاون المشترك، وتمكيناً من التوزيع الأمثل لمهام الدفاع عن الوطن وحماية أمنه القومي. وأضاف البشير: «أما في ما يتصل بقسمة الثروة فإننا مستعدون لتبني تطوير البرامج والمشروعات التي اُعتمدت في صندوق الوحدة، في مجالات التعليم والكهرباء والمشروعات الزراعية والتصنيع، حتى تبلغ مستوى يماثل ما يقدم. ونتعهد هنا بتقديم الموارد المالية لتلك المشاريع، سواء من الميزانية القومية، أو المنح والقروض «حتى لو تجاوز ذلك نسبة100%» من عائدات النفط. وأردف الرئيس قوله: «أما فيما يتعلق بقسمة السلطة، فسوف ندعو إلى مراجعة في إطار قومي، لطبيعة العلاقات اللامركزية على المستوى الولائي والمحلي في القطر كله، وبما يعزز من التجربة، ويوسع من دائرة مشاركة أبناء الوطن، وأبناء الجنوب خاصة في بناء الوطن الكبير.. وأؤكد مجدداً أننا - مع التزامنا القاطع بالاستفتاء- لا نرضى عن وحدة السودان بديلاً، ولا نرى سواها عاصماً يصون أرضنا من التفتت والضياع، فما سالت دماء شهدائنا الطاهرة إلا لتروي شجرة الوحدة، ولا صابرنا على الحوار والتفاوض العسيرَيْن، سنين عددا، لتكون خاتمة المشهد انسلاخ الأرض و وداع الشقيق. فالكل يعلم أن اتفاق السلام الشامل حين أقر الاستفتاء، إنما أقره لأنه حق مكفول ومنهج معهود، ولكن كل كلمة في الاتفاق كانت تحمل بشريات الوحدة، بدءاً بوقف نزيف الدماء، ثم التزاماً بالحقوق واقتساماً لثمرات السلطة والثروة، وتطبيعاً لعلاقات المواطنين وهم يتنقلون بين شطري وطنهم الواحد دون عوائق أو عوائد.. ولأن اللبيب بالإشارة يفهم.. فقد كنا - وسنظل - نعنى بالاتفاق الشامل أنه اتفاق وحدة لا انفصال، ولهذا -أيضاً - سنظل حتى اللحظة الأخيرة نبذل كل طاقتنا، إصراراً على حفظ السودان واحداً موحداً، دون أن ننكص عن التزام. وهنا أجدد الدعوة لكل القوى الوطنية - المساندة منها والمعارضة- لأن تبذل جهدها في شحذ خيار الوحدة وجعله خياراً جاذباً حقاً، وستبقى قلوبنا وعقولنا مفتوحة لكل حوار يساند وحدة التراب السوداني، ويستشرف المستقبل الواعد للوطن أملاً وعملاً. هكذا إذن تحدث الرئيس البشير أمام البرلمان، بمبادرة غير مسبوقة وأبدى حرصاً لا تشوبه شائبة على وحدة الوطن أرضاً وشعباً. صحيح أن مراقبين كثر قد وصفوا حديثه بأنه يأتي في وقت متأخر، لكنهم نسوا أن حديث «الرؤساء» ومن بيدهم الحل والعقد، ليس كأي حديث، إنه مبادرة اللحظة الأخيرة والحاسمة، وأن تأتي مثل هذه المبادرة في أي وقت قبل «وقوع الفاس على الراس» فهي كفيلة، إن فُعِّلت وأُطرت وأُخذت على مأخذ الجد من الجميع، كفيلة بأن تقلب الموازين، إذا ما صدق الجميع مع أنفسهم ومع الآخر وتحلوا بالجدية والإخلاص التي يتطلبها الموقف، بغض النظر عن أفكارهم المسبقة وخنادقهم الفكرية والآيدولوجية، فالسؤال الملح والماثل الآن أمامنا هو: ما العمل لإنقاذ السودان.. إنقاذ وحدته وسلامه في آن معاً، لأننا كما ظللنا نردد دوماً فإن «الوحدة والسلام صنوان» لا سلام بلا وحدة ولا وحدة بلا سلام، وتؤكد كل الأحداث والتصريحات والتداعيات التي نراقبها ويراقبها الجميع أن كل توجه للتشطير والانفصال يعزز من روح العداوة والبغضاء بين أبناء الشعب الواحد، وأن فرص السلام في ظل الانقسام والانفصال تكاد تكون معدومة. مبادرة البشير، التي يجب أن تجد المساندة من جميع الحريصين على وحدة الوطن، في الحركة الشعبية خصوصاً بوصفها شريك الحكم، ومن قوى المعارضة المعروفة بمواقفها الوحدوية، لم تكن مبادرة في فراغ فهي دعوة صريحة وجريئة وشجاعة لمراجعة اتفاقية السلام ومراجعة مستوى التنفيذ الذي شهدته الاتفاقية حتى الآن لسد الثغرات المُفضية لخيار الانفصال القميء والخطير، الأمر الذي يحتم على هذه القوى وفي مقدمتهم الحركة الشعبية- المستفيد الأول والأكبر من اتفاقية السلام- الترحيب بهذه المبادرة ووضع المقترحات التي تضمنها خطاب البشير حول: «التنمية السياسية»، التي لا تعنى سوى تعزيز التحول الديمقراطي وإرساء دولة الوطن و«اللامركزية»، التي لا تعنى سوى تأسيس نظام فيدرالي حقيقي، ودعم الجيش الشعبي الذي لا يعني غير إرساء قواعد الجيش الوطني الواحد إعمالاً لنص «القوات المدمجة المشتركة» وتطويره باتجاه بناء القوات السودانية الموحدة، حمايةً لأمن الوطن القومي، وقسمة الثروة والسلطة تحقيقاً للعدل والتنمية المتوازنة. كل هذه وغيرها مما جاء في خطاب الرئيس، عناوين كبيرة وقضايا جوهرية تستحق أن تجتمع حولها القوى السياسية بقلب وعقل مفتوحين كما قال، باعتبارها طوق النجاة الأخير قبل أن يعم الطوفان.. إنها شمعة أضاءها البشير في آخر النفق، فمن فضلكم لا تطفئوها..! (نواصل)..