٭ أهداني الزميل والصديق القديم السفير نور الدين ساتي كتابه الذي صدر حديثاً عن دار «مدارك» للنشر تحت عنوان «عجز القادرين» وقدم له الصحافي الكبير الأستاذ محجوب محمد صالح.. وللكتاب عنوان رديف هو «تأملات في الحالة السودانية».. يقع الكتاب في (381) صفحة من القطع المتوسط، وقام على تصميمه الاستاذ الياس فتح الرحمن صاحب «مدارك» وشارك بالخطوط والرسم الفنانان تاج السر حسن وحسين جمعان. ٭ كتاب نور الدين الذي استلمته قبل ثلاثة أيام، واطلعت على جزء كبير منه، بدا لي أنه أكثر وأعمق من مجرد «تأملات في الحالة السودانية».. بل يتعدى ذلك ليصبح رصداً ودراسة موثقة للمأزق السوداني، رصداً دقيقاً للتيارات التحتية- الاجتماعية والثقافية والاقتصادية- التي شكلت الحالة السودانية التي تحولت مع توالي الحقب والأزمان إلى حالة مستعصية ومزمنة يتطلب التعافي منها إلى جهد ودأب وإعادة نظر في الكثير من المسلمات والسلوكيات التي تحولت إلى عادة ونهج تلقائي في التعامل مع الحياة.. نهج طبع السياسة ونظم الحكم المتعاقبة وإدارة الدولة.. وبرغم ان الكتاب هو مجموعة مقالات كتبت ونشرت في أوقات مختلفة إلا أن القاريء لها يستطيع ان يلمح بوضوح الخيط الرابط والرؤية الواحدة التي تصدر عنها تلك المقالات. ٭ العنوان الرئيس الذي اختاره نور الدين لكتابه «عجز القادرين..» المأخوذ عن قصيدة أبو الطيب المتنبي ينمُّ عن حالة الأسى والحسرة التي تسيطر على وجدان المؤلف الذي كان ينتظر أن يرى شعبه وبلاده في وضع أفضل.. فهما عنده يستحقان أن ياخذا مكاناً لائقاً تحت الشمس وبين الأمم والبلدان، بما تهيأ لهم من موارد طبيعية وقدرات بشرية.. لولا «عجزها عن التمام» الذي لم ير أبو الطيب عيباً أفدح ولا أشنع منه. ٭ مدخل نور الدين إلى دراسة المأزق السوداني، هو الوقوف عند الظواهر السلبية في حياة السودانيين، التي قليلاً ما يلتفتون لها وينتبهون لدورها في القعود بهم عن كل نهضة و تقدم.. وهي ظاهرات تمثلت في التيارات التحتية التي شكلت البناء الفوقي.. ثقافة وسلوكاً اجتماعياً وسياسة وإدارة فاشلة للموارد الاقتصادية واستقطاباً واحتقانات دورية.. كان يمكن تفاديها بقليل من الحكمة والانضباط والموضوعية، لو عملنا، كما فعلت أمم أخرى، على التوفيق بين قيم الماضي ومطامح المستقبل.. تلك الأمم التي تجاوزت قضية الخلط بين جوهر الأشياء وأغلفتها وأشكالها الخارجية والتي نجحت في التأليف بين الباطن والظاهر وبين التطلع إلى السماء والحياة على كوكب الأرض- كما يقول نور الدين- الذي يرى أن مأساتنا تكمن في أننا نعمل على ردم تلك الفجوة العميقة عن طريق العنف والجهل والتجهيل بينما نجح الآخرون على تجاوزها عن طريق العلم والاستنارة والتنوير. ٭ نور الدين الذي زاملناه طالباً بآداب جامعة الخرطوم، مساق اللغة الفرنسية، اشتهر بين أقرانه بالتهذيب الممزوج بخفة الظل والحميمية المبذولة والانفتاح على الآخر، وربما هذا ما أهله بالاضافة إلى كسبه المعرفي لأن يتدرج في السلك الدبلوماسي الذي يشبهه.. فهو رغم تقدميته ويمقراطيته الظاهرة، لم يعرف عنه أية تحيزات آيديولوجية صماء أو انتماءات سياسية متصلبة، بل تعامل مع الآيديولوجيا والسياسة باعتبارها اجتهاد بشرٍ تأخذ منه ما تأخذ وتردُّ ما تردُّ.. وهذا ما يمكن أن نلمحه بين سطور كتابه الذي لم تنقصه الصراحة التي هي بعض مقومات الموضوعية والأمانة في تناول الشأن العام دون خوف أو وجل، سواء كان في ما يتصل بمسالك السودانيين كشعب ومجتمع ونخبة متعلمة أو سلوك النظم والحكام في إدارة الدولة. ٭ فهو يقدم نقداً صريحاً وموضوعياً لأحوال بلادنا اليوم عندما يقول: أزمتنا، اذن، في متعلمينا ومفكرينا، كما أنها في البيئة السياسية والفكرية والثقافية التي أصبحت حكراً على عددٍ محدود من مفكري ومثقفي النظام الحاكم، يوجهونها كيفما يشاؤون، تسندهم في ذلك أجهزة الدولة المختلفة من أمن وإعلام ومؤسسات تعليمية وثقافية وفكرية، التي مهدت لانتاج نوع من المتعلمين وقادة الرأي الذين ما أن يتعلم الواحد منهم كلمة أو كلمتين أو يقرأ كتاباً أو كتابين أو يمن الله عليه بقرش أو قرشين، خاصة السياسيين وأولئك الذين يخلطون ما بين الفكر والسياسة، في خليط متفجر مدمر، فإنك ترى الواحد منهم متجهم الوجه عبوساً يحسب أنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً.. فينصّب نفسه وصياً على الناس، يحصي عليهم أنفاسهم، بل يحسب أن يملك فيهم حق الإماتة والإحياء.. وتتجلى تلك الازدواجية في صور وأشكال عديدة منها الاجتماعي والفكري والنفسي والسياسي.. ولا شك أن مشكلة السودان، وهي مشكلة سياسة في التحليل الأخير، من فعل النخب الحاكمة فيه، وآخرها وأكثرها مسؤولية «حكم الانقاذ» الذي هو أطولها عمراً والأبعد أثراً، إلا أنها تتجاوز ذلك إلى أنها مشكلة اجتماعية تتعلق بالخلفيات الأسرية والتربوية والاجتماعية والنفسية للأفراد والنخب والجماعات ولعملية التربية الأولية والتنشئة.. تنشئة تقوم على القمع والترهيب والتخويف.. فيتعلم الواحد فيها الخوف والكذب والمدارة، مما يؤدي إلى شكل من اشكال انفصام الشخصية والتقمص المزدوج، الذي يجعل الانسان يتلبس بالموقف المعين والموقف المضاد في آن معاً.. ومن ذلك أيضاً نروع السودانيين إلى إلقاء اللوم على الآخر والتنصل من المسؤولية تجاه الأفعال الشخصية كقول أحدهم لأهله بعد ظهور النتائج: «سقطوني في الإمتحان».. بينما الامتحان هو من صميم الجهد الشخصي.. هذا غير ما يرصده الكاتب ويوجهه من نقد للظاهرات التي طبعت سلوك كثير من السودانيين «كالعشوائية والسبهللية والفوضى»، ومن نتائج ذلك هذا البحر المتلاطم من التناقضات والتأرجح بين مركبات النقص ومركبات الاستعلاء، التي هي بعض مخاض الانتماء المزدوج العربي والأفريقي وما ترتب عليه من ارتباكات.. لاننا لم نحسن تدبيرها واستخراج عناصر الثراء والابداع فيها. (نواصل)