حتى ذلك الوقت من شهر أكتوبر 1964م كنا بصفة عامة نحن تلاميذ مدرسة كوستى الأميرية الوسطى لا نعرف شيئا يذكر فى السياسة ولم تكن قط من إهتماماتنا وكان هناك إستثناء لكنه كما قالوا الإستثناء الذى يؤكد القاعدة وكانت إهتماماتنا بعد الأكاديميات كروية بحتة وربما كان لنظام نوفمبر الذى يرأسه الفريق إبراهيم عبود دور فى ذلك فقد كان كثير الإهتمام بكرة القدم وفى عهده زارت فرق أجنبية عديدة السودان بل إن قطبى الكرة السودانية الهلال والمريخ لعبا ثمان مباريات فى موسم كروى واحد وإنتصر فيها جميعا المريخ الذى كان أبرز لاعبيه برعى وأبراهومة وماجد . وفى عهد الفريق عبود أنشئت استادات الهلال والمريخ والموردة وتمت إنارة استاد الخرطوم وكانت هناك مجلة رياضية اسبوعية وكانت مجلة مقروءة ولم يكن هناك ما يبرر إعدامها بعد ثورة أكتوبر 1964م التى أطاحت بنظام الفريق عبود . وخلال ذلك العهد الذى إمتد من نوفمبر58م إلى أكتوبر 1964م كانت الأسعار ثابتة تقريبا وكانت الحياة فى جانبها المعيشى سهلة لكن المواصلات كانت فى غاية الصعوبة وكانت بطيئة وكانت طموحات النظام محدودة حتى داخل الوطن ولم تكن له طموحات على المستويات الأخرى فقد كان نظاما منكفئا على السودان تقريبا وربما كان هذا الإنكفاء ميزة وتجسيدا لإدراك النظام لقدراته الحقيقية . وكانت مشكلة الجنوب تتصدر مشكلات البلد فقد كانت هناك جماعة مسلحة تقاتل القوات المسلحة ولكن يبدو أنها بنظر النظام كانت مشكلة مقدورا على حلها وكان الحل عسكريا بحتا ويقولون إنه عند قيام ثورة أكتوبر 1964م كانت الحركة الجنوبية المسلحة التى سمت نفسها أنيانيا فى أضعف حالاتها؟وكانت معارضة الحزبين الكبيرين الأمة والوطنى الإتحادى تتجلى فى المناسبات الدينية والوطنية وكان ثم دور بارز لرئيس حزب الأمة السيد الصديق المهدى فى هذا المجال وكان الأمين العام لحزبه العميد عبدالله خليل هو الذى سلم الحكم للفريق عبود فى 17 نوفمبر 1958 وأيضا كان جده إمام الأنصار السيد عبدالرحمن المهدى فى مقدمة من أيدوا وباركوا الإنقلاب العسكرى الذى أطاح بالديمقراطية فى 17 نوفمبر 1958م وشاركه فى التأييد والمباركة زعيم الختمية وراعى حزب الشعب الديمقراطى السيد على الميرغنى وكان الحزبان الأمة والشعب الديمقراطى يحكمان البلد منذ يوليو 1956م وكان يرأس الحكومة العميد عبدالله خليل الأمين العام لحزب الأمة وأحد كبار مؤسسيه وكانت تلك الحكومة تسمى حكومة السيدين وكان نائب رئيس الحكومة هو الشيخ على عبدالرحمن الأمين الضرير رئيس حزب الشعب الديمقراطى . وأثناء حكومة السيدين كان أهم وأقوى أحزاب المعارضة هو الحزب الوطنى الإتحادى الذى يقوده رئيس الحكومة الوطنية الأولى وبطل الإستقلال الزعيم إسماعيل الأزهرى لكن الأزهرى لم يكن هو زعيم المعارضة وإنما كان زعيمها هو نائبه المحامى مبارك زروق وكما قلنا فإن معارضة الحزبين الكبيرين الأمة والإتحادى لنظام الفريق عبود كانت تتجلى فى المناسبات الدينية والوطنية وكانت المذكرات أحدى أشكال تلك المعارضة . وفى عهد الفريق عبود تم تنفيذ أول إعدام سياسى بعد الإستقلال فبعد فشل محاولة إنقلابية حدثت فى نوفمبر 1959م أعدم الضباط على حامد ويعقوب كبيدة والصادق محمد الحسن وعبدالحميد عبدالماجد ومن الغريب أن محاولتين عسكريتين أخطر من هذه المحاولة حدثتا فى نفس العام أى عام 1959م فى شهرى مارس ومايو قادهما ضابطان كبيران هما العميدان محى الدين أحمد عبدالله وعبدالرحيم شنان إلا أنهما لم يعدما؟ وكان جزاؤهما السجن المؤبد ثم افرج عنهما بعد سقوط نظام نوفمبر فى أكتوبر 1964م . وكانت النقطة السوداء فى تاريخ نظام الفريق عبود هى التضحية بمدينة حلفا التى إختفت من الوجود بعد قيام السد العالى فى مصر . ويقولون إن الفريق إبراهيم عبود رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس الوزراء كان رجلا طيبا سمحا نزيها لم تمتد يده قط إلى جنيه واحد من مال الشعب ولذلك ظل المواطنون يحترمونه حتى بعد سقوط نظامه ولم يكن خطيبا وكانت خطبه مكتوبة وقليلة ومؤتمراته الصحفية كانت تعد على أصابع اليدين ولم يكن رئيسا كاريزميا وكانت المنطقة من حوله تزخر بالرؤساء الكاريزميين من أمثال الرئيس المصرى جمال عبدالناصر والغانى كوامى نيكروما والغينى أحمد سيكوتورى والمالى ماديبو كيتا وكان العصر يوصف بأنه عصر العمالقة فقد كان هناك فى فرنسا ديجول وفى المانيا الغربية كونراد أديناور وفى أمريكا ايزنهاور ثم كندى وفى الصين ماو وفى الهند نهرو وفى يوغسلافيا تيتو وفى كوبا كاسترو وكانوا جميعا كاريزميين . لكن الكاريزما ليست شرطا للزعامة الفاعلة المنجزة والبرهان الأسطع على ذلك هو زعيم حزب العمال البريطانى كليمنت أتلى الذى رأس الحكومة البريطانية عام 1945م وإستمر حتى عام 1951م وكان خلال الحرب العالمية الثانية ( 39 إلى 1945 ) نائبا لرئيس الوزراء وينستون تشرشل الذى قاد بلاده للإنتصار فى الحرب العالمية الثانية وبينما كان تشرشل يملك كثيرا من الكاريزما كان أتلى يفتقر إليها ورغم ذلك يرى البعض أنه أى أتلى هو أعظم رئيس وزراء بريطانى فى القرن العشرين فقد حقق جانبا من دولة الرفاهية وإنخفضت البطالة فى عهده وأقام مشروع التأمين الصحى