إلى الأمجاد : إنتقل إلى الأمجاد السماوية ،الحبيب اللبيب الأمير المهيب الدكتور صبحى أسكندر مرقس فى يوم 7 / 9 /2014م ،وهو مستشار أمراض النساء ،والشماس الذى يأتى مبكراً إلى كنيسة الشهيدين زهرة الكنائس فى السودان ،وكان يخجل بتواضعه كل قيادات الكنيسة ،وفى الوقت نفسه كان مهموماً بصحة آباء الكنيسة ،وكان فى برنامجه اليومى يبدأ بالقداس الإلهى السادسة صباحاً ،ثم يذهب إلى المستشفيات ، له مكان فى الراهبات والأطباء وإمبريال ،مهتماً بالتوليد ورعاية الأم حتى تستقبل طفلها ،وكثيراً ما كان الآباء يصرون أن يسموا المواليد صبحى على إسمه ،وهذا نوع من الوفاء أذكره معه ومع غيره من الأطباء ،فلقد صمم الحلفاوى محمد عثمان على أن يسمى إبنه تادرس إعتزازاً بالدكتور تادرس سمعان ،وفى مواليد راهبات الخرطوم طفل هو تادر س محمد عثمان . وهنا أذكر الأديب نجيب محفوظ ،والذى لا أعرف إسم أبيه ،ولكن قال فى مذكراته أن أمه كانت متعسرة فى الولادة فإستشار أحد الأصدقاء المقربين ،وهذا الصديق قال له سوف أحضر إليك أكبر وأشهر طبيب توليد ،بل وزير الصحة نجيب محفوظ ،وعرف رقم تليفوناته وأتصل به ،وجاء سريعاً وأنقذ الأم والطفل ،وهنا صمم الأب أن يسمى إبنه نجيب محفوظ ،وقال الأديب فى مذكراته أن البعض كانوا يظنون أنه مسيحي ،وعندما تقدم للإمتحان لكى يسافر إلى فرنسا منحة دراسية لدراسة الفلسفة ،لم يوافقوا عليه إعتقاداً منهم ليس بأنه مسيحى فقط بل ربما يكون من حزب الوفد . والحمد لله لم يصبح فيلسوفاً معتزلاً ،ولكنه صار أديباً قصصه ذات مغزى ومعنى . والدكتور صبحى أسكندر كان شارع الصحافة زلط يسمى شارع الدكتور صبحى ،وقبله كان يسمى شارع الدكتور كمال بنى مقار ، و أرجو من معتمد الخرطوم أن يطلق إسم هذا النطاسى البارع على نفس الشارع ،فإن شارعنا أيضاً يسمى شارع القسيس ،وعمود كهرباء القسيس وتليفون القسيس ،وعندما طالب أبنائى تسمية الشارع بشارع القمص فيلوثاوس فرج ،إعتذروا بأن الأب لم يزل على قيد الحياة ،وأننى هنا أطالب معتمد الخرطوم المحترم أن يطلق إسم دكتور صبحى إسكندر على شارع الصحافة زلط ،وسوف نذكر هذا بالتقدير والإعتزاز . لقد رحل صبحى أسكندر إلى ربه راضياً مرضياً ،ونحن ليس لدينا إلا أن نسلم الأمر لله ،ونقول مثلما قال أيوب الرب أعطى الرب أخذ ،ليكن إسم الرب مباركاً ،ونذكر ترنيمه سفر الرؤيا الجميلة :طوبى للأموات الذين يموتون فى الرب نعم يقول الروح إنهم يستريحون من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم ،لقد رحل طبيب أمراض النساء وحقيبته تمتلئ بالأعمال الصالحة التى قدمها من حب لمهنته ،وإخلاص لمرضاه ،وخوف على كل أم، وإهتماماً بكل طفل بتسليمه هو أولاً ،شاكراً الرب داعياً للأم والطفل بالصحة والسعادة والهناء والنعمة والبركة ،وأملنا جميعاً فى إبنه المبارك الدكتور أمين ،وبناته الاربع المباركات ،لكى تمتد قصة صبحى أسكندر وجهاده المبارك فيهم وبهم ، فلقد كان باراً بأهله مخلصاً لكنيسته محباً لوطنه ، أعطى وأعطى لم يستبق شيئاً . فيصل وجريس : أقيمت أيام العزاء فى رحاب كنيسة الشهيدين ،ولقد كان الألم ألم الفراق هو ألمنا جميعاً ،وجلس كهنة الكنيسة يستقبلون التعزيات ،الأب الدكتور فيلوثاوس ،والأب القمص صليب وهو طبيب تخدير ،والأب مينا عماد وهو طبيب تحاليل ،وجاء للتعزية عدد كبير من الأطباء والأخصائيين زملاء صبحى أسكندر ،وهم جميعاً يذكرون إهتمامه بهم بأسرهم ،وربما بتطييب زوجاتهم وإستقبال أطفالهم دون مقابل ،ومثل الدكتور صبحى لا يهمه المال إنما يهمه أن يقدم خدمة طبية على قدر من المسئولية والعناية والرعاية . وقد تألق بين الحاضرين للعزاء البروفسور سليمان فضيل ،الرجل العظيم فى خدمته ،والذى نعتز بمستواه الممتاز فى خدمة الطب ،وما زلت أذكر تعليقه الذى كرره أكثر من مرة ،عندما قال الأب الدكتور صليب له أنا تلميذك ،فقال هو وأنا تلميذ الأب فيلوثاوس ،وأجلس يومياً إلى كتبه أقرأ وأتتلمذ منذ أهدانى مجموعة كتبه القيمة ،وأذكر أيضاً فى مؤتمر عالمى أننى إلتقيت رئيس وزراء الفلبين ،الذى عندما أستلم كارتى قال كيف تكون فى السودان وهناك مشكلة فى دارفور ،فقلت له هناك رجل سلام من أهل دارفور هو البروفسور فايز فضيل ،وسوف يجد حلاً ،كما زيّن الحضور البروفسور عبد السلام جريس ،وهذا الرجل العظيم جاء إلينا رغم مرضه ،وهو رجل قوى من الواقفين على خط النار ،وقد إرتفع فوق الألم ،ورغم المرض يمارس مهنته كإستشارى أمراض نساء ،ويقرأ ويقر رسائل الماجستير والدكتوراة ،وقد كانت معه بنتان من بناته طبيبتان ،وقد علمت أنه يملك ثروة فخمة وضخمة ذات قيمة عظيمة ،حيث له ست بنات كلهن يتميزن علماً ،ويتألقن جمالاً،ويتمتعن بجمال الخلقة والأخلاق ،وكلهن عاطفة محبة جياشة ،وعناية ورعاية لهذا الرجل العظيم . وأذكر أننى إلتقيته قبل المرض ،وسألته عن إسمه العذب جريس وقلت له إن جريس هو تصغير جرس ،وهو إسم مسيحى صرف ،وهنا إبتسم الرجل وقال إن أجدادنا مسيحيون ،وطبعاً هو يقصد أن السودان كله كان مسيحياً ،ملوكاً وشعباً ،لمدة ألف عام من تاريخ السودان العظيم ،وفى هذه المرة ذكرته بهذا الكلام ،وبعدها أرسلت إحدى بناته المباركات مقالاً عنوانه :فى سيرة عبد السلام جريس، فى العمود المقروء غرباً بإتجاه الشرق ،وكان مصطفى يكتب تعليقاً عن كتاب : عبقرية عبد السلام جريس وأذكر هنا بعض ما قال : أحسب أن من تخيّر (عبقرية عبد السلام جريس) عنواناً لهذا العمل قد بلغ المقصد وأصاب توفيقاً كبيراً. كيف لا، وهو كتابٌ يوثق لسيرة رجل من أنجب من أنجبت بلادنا. ويتوالى عبر صفحاته سردٌ شيّق ماتع، ينضح بالحيوية ويُغري بالقراءة المتأملة. يبسط سيرة حياة هذا الانسان الشفيف الفذ، ويعرض مواقفه وإنجازاته من خلال ما سطره ثلاثون من معاصريه ورفقاء دربه وعارفي فضله، يقف القارئ من خلال السرد المضطرد على حياة لعلها من أخصب الحيوات، وأكثرها بذلاً، وأغزرها إنتاجاً، وأعظمها عطاءً. وقد وجدت في ذروة المطالعة قاسماً مشتركاً بيني وبين حبيبنا الدكتور محمد جلال هاشم، الذي كتب بعض صفحات من الكتاب، ومن بين ما كتب: «إسم عبد السلام جريس كان ذا قوة مغناطيسية عندي. اذ نشأت في وسط اجتماعي ترن فيه أسماء يتفاخر بها أهلي، وتعلوهم سيماء الإعتزاز إذا ما جرت على الألسن. وإسم عبد السلام من بين هؤلاء». وكأن جلال يكتب بقلمي، أو قل كأنني أنا أملى عليه وهو يكتب !ولو كنت اُملى حقاً على قريبي محمد جلال هاشم، لما أمليت عليه تلك الجزئية التي أوردها وهو يروم التعريف بالدكتور عبد السلام. إذ ألقى ضوءاً كثيفاً على أصول الرجل، من حيث إنتمائه إلى أسرة جريس، وهي من أعرق الأسر في تاريخ النوبة. وجريس الأكبر هو أحد ملوك النوبة في حقبة الممالك المسيحية، وكان يلقب بصاحب الجبل. ثم أصبح إبراهيم حسين جريس، في عهد المهدية - وقد دعاه خليفة المهدي للقدوم إلى أم درمان - شيخ الربع لمنطقة تمتد من بيت المال و حتي الركابية. ثم قال !الذين يعرفون الدكتور عبد السلام جريس، وهم كثر، يعرفونه شخصاً واحداً قائداً في كل مضمار ولج إلى رحابه، منذ عهد الطب، منتصف القرن الماضي، وحتى يوم الناس هذا. عرفوه طالباً متميزاً، وطبيبا بارعاً، و أستاذا جامعياً مرموقاً. ثم عرفوه مبتدراً لمشروعات كبرى، ومؤسساً لهيئات ومنظمات، كان أكبر همها، وما يزال، أن ترفع الهم والحزن عن إنسان السودان، وأن تضع بين يديه وفي خدمته أفضل ما خلصت إليه الإنسانية في مضمار الطب الحديث ولا غرو، فعبد السلام واحد من أبناء الجيل الرائد، الذين آمنوا منذ نعومة أظافرهم بواجب كل من نال حظا من التعليم في أن يضع قسطاً مقدراً من علمه وقدراته ومهاراته، بل وحياته كلها، في خدمة شعبه . وأرجو من بنات البروفسور أن يرسلن إلىّ هذا الكتاب الجميل ،والحمد لله سافر صبحى أسكندر إلى السماء ،وسوف يظل كتاباً مفتوحاً لكل الناس وللأجيال من بعده .