ليس الحوار موضوعاً جديداً للبحث ، إذ هو منذ عقود مطروح للمداولة في الندوات واللقاءات الفكرية وخطابات السياسيين على مستواه الداخلي والإقليمي والكوكبي كما بين الإسلام والمسيحية أو بين الإسلام والغرب ، أو بين القوى والأحزاب السياسية داخل البلد الواحد . وإذا كان الحوار مسألة صعبة لما يقتضيه من صناعة الذات بتحويلاتها عن قناعاتها أو زحزحتها عن مركزيتها ، على نحو يتيح لقاء مثمراً مع الأخر ، فإن الصعوبة هي مضاعفة ، عندما يتعلق الأمر بحوار في بلد يتركب من أقليات متعددة أو مجموعات مختلفة على الصعد العرقية أو السياسية أو المذهبية . ونساهم بهذا المقال على سبيل الإنماء والتطوير ، انطلاقاً من الانخراط في المناقشات والندوات الفكرية على وقع الإخفاقات والأزمات في المشاريع والدعوات ، والأساس في ذلك هو أن تحسين قراءة المتغيرات وتشخيص مشكلات الواقع الراهن لمجتمعنا ، فنحن إزاء مأزق تواجهه البشرية .. كون الإنسان يطرح قضايا تفوق قدراته ، أو يرفع شعارات لا يحسن سوى انتهاكها ، أو يدعي محاربة أعداء يتواطأ معهم على صناعة الخراب والهلاك ،وكأننا بتنا أسيرين ما نصنعه من الأنظمة والشبكات والأدوات والأسواق . هذه متغيرات يجدر أن نعترف و وأن نحسن قراءتها ، لكي نعرف ونعتبر ، فمن لا يحسن قراءة المتغيرات تهمشه الأحداث أو تداهمه المفاجآت . ومن لا يعترف بالحقائق لا يحسن الدفاع عن الحقوق والمصالح ، لذلك هنالك علاقة وثيقة بالحوار الدائر بين الهويات الثقافية والسياسيه والخصوصيات المجتمعية . فمن لا يعترف بالوقائع ينتهك الحقوق ومن لا يحسن أن يتغير قدراً من التغير هو غير مؤهل لإدارة الحوار مع الغير . وأول الاعتراف هو أن ما نواجهه من التحديات أو نقع فيه من المآزق هو وليد أفكارنا بالدرجة الأولى . وسواء تعلق الأمر بالغرب أم العرب أم الإسلام ، أم بأي مجموعة بشرية او سياسيه أخرى . الأمر الذي يحتاج إلى عُدة فكرية جديدة لسوس الهويات وإدارة الحوارات ، هذه أبرز عناوينها: 1. التُقى الفكري : مفاده أن يقر الواحد بتناهيه وحدوده ككائن وإنسان ، بحيث يعترف بأنه لا يملك مفاتيح الحقيقة والسعادة ولا يقبض على ماهيات الأشياء ونظام العالم أو معاني النصوص . ومؤدى هذه الاعتراف أن نعمل على خفض السقف الرمزي ، بحيث يقتنع الواحد بأنه أقل معنى وشأناً ، مما يدعي ويعلن ، من حيث علاقته بما يتعلق به من القيم أو يدافع عنه من القضايا كالحقيقة والعدالة والحرية والعقلانية والعروبة والإسلام والمسيحية ، فضلاً عن القيم الحضارية والمدنية والإنسانية . فنحن كل ما رفعنا السقف نحو المطلق والمقدس والثابت والأحادي والنهائي ، ازدادت الارتباكات والفضائح ، وانتشرت الحرائق والخراب على أرض المعايشات الوجودية . فالأولى والأجدى أن نفكر ونعمل تحت خانة الأرضي والنسبي والمتعدد والمتحول أو العابر .. 2. التواضع الوجودي : مفاده أن يعترف الواحد بحدوده تجاه نظرائه ، وأن يقتنع كل طرف بأنه لا يملك هوية صافية خالصة من أثر الآخر ، ولا استثناء بين الناس ، من حيث ثقافته وقيمه ونماذج عيشه ، وخاصة من حيث عنصره ، وذلك يحتاج إلى كسر العملية الاصطفائية المركزية التي تدمر صيغ التعايش مع الآخر وتقطع خطوط التواصل بين الجماعات ، بقدر مايتوهم أصحابها بأنهم الأحق والأفضل و الأشرف والأرقى .والتواضع يحملنا على تجاوز مفهوم « التسامح» نحو مفهوم «الاعتراف المتبادل « لأن التسامح هو مجرد هدنة ين فتنتين بقدر ما يعني التساهل مع الآخر ، ولكن مع الاعتقاد بخطأه أو الانتقاص من إنسانيته . حيث ثقافته أو مجتمعه أو مهنته ، فهو مساوِ في الإنسانية والحقوق والكرامة. وتلك هي أخلاقية الحوار المنتج : أن نكف عن احتكار المشروعية ، تحت أي شعار كان ، لكي نعترف بمشروعية الآخر ، بحيث لا ننظر إليه بوصفه الأدنى ، بل بوصفه شطرنا الوجودي الذي لا انفكاك عنه ، و أن لا نتعامل معه كضد ، بل كشريك مسؤول وفاعل في صناعة الحياة وقيادة المصائر . 3. الوعي النقدي: وممارسة التقى والتواضع، كموقف وجودى ، تسهم في تشكيل الوعي النقدي والحس النقدي تجاه الذات قبل الغير . ومن يمارس النقد والمراجعة لا يرمي التبعة على سواه ، بل يعترف بأخطائه ولا يتستر على عيوبه ، وهذه من ألف باء الحوار المنتج : التوقف عن التنابذ بالألقاب والتراشق بالتهم ، من أجل حمل المسئولية المتبادلة بحيث يعترف الكل بأنهم أسهموا في صنع ما يواجهونه من المشكلات والأزمات ، والوجه الآخر لنقد الذات هو الاعتذار من الغير عما ألحقناه به من الأضرار والمساوئ ، وهذه واحدة من آداب الحوار . 4. العقل التداولي : ومن يعترف بالآخر ، يدير الحوار بعقل تداولي ، لا بعقلية سجالية ترمي تسجيل النقاط أو نصب الأفخاخ أو الهروب من الاستحقاق لرمي المسئولية على الآخر ، فذلك لا يحل مشكلة ، بل يحول السجال إلى مماحكة عقيمة ، بانتظار جولات جديدة من النزاع والصدام . إن الحوار المنتج هو الذي يتوجه فيه كل طرف نحو الآخر ، فينفتح عليه وينصت إليه ، لا لكي يرد على الحجة بالحجة ، أو لكي ينفي التهمة عن نفسه ، بل لكي يأخذ بعيني الاعتبار مخاوف الآخر وهواجسه أو مصالحه . أو لكي يحسن التبادل معه ، أو لكي يعرف كيف يستفيد منه ، على النحو الذي يؤدي إلى بناء الثقة المتبادلة ، وذلك بخلق لغة مشتركة أو قواعد جامعة . ولذا فإن الحوار المُجدي لا تطرح فيه الأفكار بصورة مطلقة أو نهائية وإنما يطرح فيه ما هو قابل للصرف والتداول والتحول ، بقدر ما يدار بلغة التواصل والتوسط والشراكة والتسوية . 5. المنطق التحويلي : والعقل التداولي يشتغل بمنطق تحويلي ، لا بمنطق الهوية الثابتة ، فنحن نتحاور مع الآخر ، لا لكي نشبهه أو نصير مثله ، ولا لكي يشبهنا أو يصبح على شاكلتنا ، بل لكي نكسر قوقعتنا ونتزحزح عن مركزيتنا ، بحيث نختلف عما نحن عليه أو فيه قدراً من الاختلاف ، بقدر ما نسهم في تغيير الآخر ، وذلك بخلق وسط للتفاهم أو صيغة التعايش أو مكان للتبادل أو إطار للبناء المشترك ، هذا شأن الحوار الفعال ، فمن مفاعيله التحول المتبادل بين أطرافه .ومن لا يحسن أن يخرج من عزلته ، أو من لا يعرف كيف يتغير ، فإنه غير مؤهل لإدارة الحوار . نواصل