لم يكن الملازم «جلال موسى» الا ذلك الشاب السوداني الصميم الذي يرى ويحلم بالانضمام لصفوف المدافعين عن بلاده وارضه.. كبر معه حلم الانضمام للقوات المسلحة بذرة..و نبتت حتى بدأت فروع الشتلات في الاثمار.. فعجلت الاقدار باسبابها المختلفة واخطتفته كما يختطف الصقر مزعة اللحم الطرية.. اخي وحبيبي وولدي الذي كان هاديء الطباع خجولاً في غيرما انكسار ودوداً في احترام.. لا اذكره الا وهو ينظر للأرض في مهابة الادب والتوقير.. قليل الحديث وظريفه.. لم تكن فكرة الموت غائبة عن مخيلة الفتى منذ الصغر.. عمل جاهداً على أن يحصل على الدرجات التي تؤهله للدخول للكلية الحربية.. وكم كانت فرحته عامرة عندما تم اختياره لحلمه.. وما درى إنه كان يقترب من الموت والعبور للعالم الآخر.. تفتقت نوارة شبابه وسط اقرانه بالدفعة فكان حفياً بهم وبصحبتهم محباً ومخلصاً لهم.. «جلال» لم تكن بخلده الا الافكار النيرة نحو الغد.. يحلم بالتوفيق في الحياة والنجاح والتغيير.. ففيه ديناميكية مؤثرة وصامتة.. تشوب ملامح وجه تفاصيل الجمال الصامد النبيل المشوب بروح الفراق والوداع والوداعة القاهرة للضعف.. ففي تعبير ايقاع رسمه جروفنا واصالة «الجريف واللوبيا».. وبحرها الذي حفظ عن ظهر قلب قسمات جسمه الذي لم يكن مضناً عن السباحة في تيارات موجه.. فقد كان محباً للبحر بشكل دوماً يخيفني مما لازمني دائماً الخوف عليه من الغرق أو التعرض للخطر.. وما دريت انه سوف يؤتى من الجو.. لانه انحاز لرفقة شياطين الجو في الفرقة التاسعة بالقوات الجوية.. ليدخل في الأخطار المعلقة ما بين الأرض والسماء، كأنه ارتفع من خطر الموج والماء إلى الهواء والجو.. «جلال» أخي.. لم تسعفني الأقدار مشاركته فرحته بالتخريج من الكلية كأنها الأقدار تؤهلني لاحتمال القادم.. «أبي» الصابر المحتسب علمت أنه بكى يوم تخريجه.. ولم يبك يوم وداعه الأخير للقبر المرقم ب(الأربع واربعين وتسعمائة).. و «أمي» التي اتمنى أن يلهمها الله الصبر، تتفطر الاكباد لفقدها لجلال الذي كان آخر عنقودها واكثرنا التصاقاً بها، بل كنا جميعنا نعجب لحميمية علاقته الزائدة بها منذ الصغر.. كان يحب أن يراها دوماً بالبيت.. وكان كثير الزعل ان اضطرتها الظروف للخروج منه في مخامص المجاملات الاجتماعية.. كبرت هذه الروح بينهما حتى وهو مكتمل ملامح الرجولة والفراسة.. وكان أول سؤال له عند العودة للبيت بلكنته المعهودة «أمي وين؟».. «ياخ مشت وين؟» وما عرف انه سيفارقها بهذه السرعة ويتركها لحال سبيلها الحزين لفراقه المهيب.. جلال أحب مظلات القوات المسلحة لكنها كانت غادرة، وسبباً في موته المجلل.. غدرت به وهو في الجو في مسافة ما بين الموت والحياة.. ولا نملك الا القول انها مشيئة الله التي لا تتخطاها الأقدار.. وإن كان في احضاننا فمن نحن حتى نحول بينه وبين ما حدده له المولى عز وجل.. ولا نلوم المظلة التي كانت سبباً في رحيله حينما أبت أن تنساق لانزاله بامان.. منعقدة الحبال وحين ابت المظلة الاحتياطية ان تفتح ايضاً.. لك الله يا حبيبي جلال.. فلتنعم بمظلات الله العلي القدير. ٭ آخر الكلام.. أراجع حالة جلال في «الواتساب» فأجده قد سطر هذه الكلمات كأنه عرف كل ما فيها وخلاصتها.. «ابتسم فرزقك مقسوم.. وقدرك محسوم.. وأحوال الدنيا لا تستحق الهموم لأنها لا تدوم».. فلتذهب كل الأسباب لمحاملها ويبقى قدر الله.. مع محبتي للجميع