خلاوي العركيين،كانت أشهر مراكز الوعي فى عهد الفونج. تلك الخلاوي أشعل نارها الشيخ محمود العركي مع بدايات السلطنة. وقد أشار ود ضيف الله فى ترجمته للشيخ محمود العركي، أنه «علّم الناس العِدّة»عندما دخل دنقلا العجوز،التي كانت أكبر مدائن ذلك الزمان.. كان الشيخ محمود العركي، هو المعلِّم الأكبر فى مرحلة الحيرة التى ضربت الناس فى مرحلة الانتقال ما بين عهد وعهد ، ما بين عهد المسيحية وعهد ذيوع مبادئ الاسلام عن طريق البدو والتجّار.. فى ذلك العهد ، بدأ الشيخ محمود العركي ببث بعض مبادئ الفقه ، ممثلة في «شريعة الأحوال الشخصية» وذلك لحوجة المجتمع إلي تلك التعاليم في تنظيم العلاقات الاجتماعية وتقنين وضعية المرأة ..فكان أن إتجه إلى تعليم الناس»العِدّة»، من أجل تنظيم تلك العلائق، والانتقال بالمرأة من وضعها شبه المشاعي، لتكون تحت عُصمة زوجها، وفق منهجية العقيدة.. وقد كان تنظيم وضعية المرأة ضروروياً لاتقاء كثير من الشرور، فى مقدمتها العراك والتقاتل بسببها، في مجتمع قبلي بدائي. انتقل الشيخ محمود العركي من شمال السودان إلى مناطق أكثر حيرة ، حيث سافر الى النيل الأبيض، ليجاور قبيلة الشُلك، وغيرهم ممن ظل على وثنيته. وانتشرت خلاوي العركيين فى اواسط السودان كمراكز تنوير، وكان «مشايخها عدول... تركنا تفصيلهم لشهرتهم»..هكذا يقول ود ضيف الله ، الذي دون بعض تراجم العركيين، مشيراً إلى أنه أهمل ذكر الغالبية العظمى منهم ، لكون التعريف بهم حينها ،كان بمثابة ترديد لحقيقة مستقرة في الوجدان وفي الواقع.. أنظرالطبقات، ص205. ومن أشهر مشايخ العركيين الذين ذكرهم ود ضيف الله فى طبقاته، الشيخ دفع الله العركي صاحب التجربة الشهيرة في الإنتقال من الفقه إلى التصوف، والتى أوردنا طرفاً منها فى سطور سابقة.. وكان الشيخ دفع الله قد إنغمس فى التصوف بعد تدريسه الفقه المالكي تمشياً مع نهج اسلافه الشيخ محمود العركي ولذلك تلكأ في مبايعة البهاري، ثم تدارك الأمر ورحل إلى الحجاز بحثاً عنه، ولما وجده قد إنتقل، طلب الطريق من خليفته..وهناك رواية متداولة، تقول «أن خليفة الشيخ البهاري في الحجاز، تقيأ في إناء، وأمر الشيخ دفع الله العركي، ان يتجرع ذلك القئ.. ولما رأى تردده عاتبه قائلا: هناك خوّاف وهنا عوّاف!؟..فشرب العركي، وحظي هو وذراريه، بمقدرة على الصبر في الخلوات»..والأعراك داخل الكيان الصوفي، أشبه بقبيلة أو فخذ، داخل الطريقة القادرية، وهم ذوو نسب لمقامات الطريق في أصله العراقي، وهم من «حملة السر»، كما قال عنهم الاستاذ محمود محمد طه، والذي كان كثير الحديث عن مناقبهم، وعن دورهم الرائد في التعليم، والتسليك.. وعلى حد عبارته، أن العركيين :»دفنوا السِرْ في عَقبة وَصَيّ»..! وما يدل على تحول نهج خلاوي العركيين من الفقه إلى التصوف، قول صاحب الطبقات، على لسان الشيخ الهميم، حال استقباله للشيخ دفع الله ، بعد أخذه الطريق في الحجاز: «أبيت ما تبقى أخونا، بقيت ولد أخونا».. إذن، من الخطأ الجزم بان خلاوي العركيين قد تخصصت في الفقه، وان منهجها في التدريب كان «منهجاً دعوياً محضاً» انظر: عبدالله حمدنا الله، اثر المراكز العلمية الاسلامية في بناء التماسك الاجتماعي، مطبوعات ملتقى الذكر والذاكرين، الخرطوم/1994، ص5. .. هذا القول، يجافي الواقع في تلك البدايات، التى كان ظرفها وسياقها ،يُلِحّ على الروّاد ، ضرورة تبسيط حقائق الدين. بالتالى لم يكن هناك مجال، للتخصص الدقيق ، أو «المحض»..! ذاك « المحض»، هو المستحيل، في مجتمعٍ شفاهي، كان وعيه يتنامى، على قاعدة التصاهر بين العربان والزنج.