لقد ذكرت فى المقالة السابقة الحميمية التى تميز العلاقات وتنسج الصداقات و ترتق الشروخات فى ثوب المزاج السودانى المطبوع على روح الألفة والمودة فى أقسى الظروف وليس أدل على ذلك من الدعوة المشهوره للرئيس السابق جعغر النميرى لابناء دفعته من حنتوب ولو رجعتم الى قائمة المدعوين لرأيتم بأم عيونكم صدق الحديث ودلالة الوصف فى الوقوف على الاطلال. فالحدث كان تعبيرا عن هذه الحميميه والرموز كانت تجسيدا للنزعة القوميه التى جمعت أمشاج النسيج السوداني من اركان السودان الاربعه حتى وقد بلغت بهم الخلافات فى تلك المرحلة حد القطيعة بفعل الازمة السياسيه ولكنهم صنعوا حقبة فى تاريخ السودان لا تقل زلزلة من بركان بوش الذى تفجر فى اركان العالم الاربعه ومن كل قدر طاقته و لكل قدر حاجته..حتى وان كان فوق طاقة العالم ودون حاجة الجميع..ولكنها وقفة على شئ من أطلال التاريخ –على الأقل بعض من تاريخ حنتوب الجميله وفى الجانب التربوى و الرياضى يكفى ان نقف عند ذكر أستاذ الاجيال والذى ما غاب عن البال و لا رحل عن الذاكره..ليس فى عقل ابناء حنتوب فقط ولكن على امتداد خريطة السودان وهو المعلم العلم الفذ هاشم ضيف الله..فقد كان ظاهرة فريدة فى كل مناشط الحياة العلمية والعمليه..فقد اشتهر باحترام الوقت فى زمان كان قطار السكة الحديد يقطع المسافة ما بين بورتسودان و الخرطوم فى ثلاثة ايام فى طريق يمثل شريان الحياه و يحمل اكسير الحياه لكل اهل السودان..كان هاشم ضيف الله يمثل ساعة بيولوجية مركبة فى عقل كل طالب و بوصلة جغرافيه تحدد مسار كل طالب وقدوة والديه تشكل سلوك كل طالب و يكابر من يقول ان من بين وجوه كل المعلمين التى علق بها الصدأ نتيجة غبار الزمن الطويل ان تكون تلك المعالم المميزه فى نظرته المحدقة ورؤيته المدققه وحيويته المتدفقة قد شابها الضباب أذكر اننى ذات صباح باكر وانا أجرى لالحق حصة الاستاذ الراحل الاديب و الشاعر الحبيب الاستاذ الهادى آدم مسرعا من داخلية ابوعنجة قطعت (ميدان النجيلة) الى الفصل.. كنت أعرف انها من ( الكبائر) ولكن صاحب الحاجة أرعن يركب الصعب وهو عالم بركوبه.بعد نهاية الحصة استدعانى الاستاذ هاشم ضيف الله فى مكتبه وخلفى العم (مصطفى جرس) وسالنى هل تعرف لماذا استدعيتك؟ قلت نعم ونظر الى العم مصطفى وقال له سوف استدعيه فى الوقت المناسب وبدأت مرحلة الاستعداد بالملابس الواقية من العقاب لفترة طويلة حتى اصابتنى الغفلة و ظننت اننى افلت من العقاب استدعانى و قال لى أتعرف لماذا استدعيتك ؟ قلت لا قال لانك لن تكرر الغلطة ولذلك لن أعاقبك وصدقونى لم اكرر عبور النجيله الخضراء حتى اليوم ونقلت هذا الدرس القيم لابنائى.. وتتوالى السنوات وأعود طبيبا لاسكن فى الصافيه خلف منزل رجل البر الراحل الحاج الصاتفى وأقف بسيارتى لاتزود من محطة الوقود الكائنه امام منزله..وفجاة ينزل من السياره فى الجانب المقابل الاستاذ هاشم ضيف الله متوجها نحوى فما كان منى الا ان هرعت ترتعد فرائصى من هول المفاجأه وبادلته السلام وادخل رأسه للسلام على زوجتى التى كانت تجلس بجانبى ثم قادنى الى سيارته و عرفنى على زوجته قائلا: الدكتور عماره احد طلابى المتميزين فى حنتوب و يسكن جوارنا فى الصافيه..وكانه يقول لى لكل مقام مقال..فقد قسوت عليك رحمة بك وهأنذا افعل! ويشهد الله أننى لم اكن اعلم هذه الحقيقة حيث جئت حديثا منقولا من جوبا أحمل معى أطنانا من هموم البحث عن السكن و البعثه المرتقبه ولكننى وجدت اعظم من هذا ..الوجه الاخر من أستاذى هاشم ضيف الله و امثاله من أقطاب ذلك الجيل من الرواد ..جيل التربية و التعليم وقد ربانى صغيرا و علمنى كبيرا أغلى كنوز المعرفة.