مدخل أول : يقول السيد/ المسيح ( ماذا لو كسب الإنسان العالم وخسر نفسه) حتى غدا ( للثعالب أوجزة وللطيور أوكار، أما بني الإنسان فلا يعرف أين يضع رأسه ) . مدخل ثاني : المذهب البراغماتي ليس فلسفة وإنما تعبير عن الخصائص الرأسمالية الفردية الليبرالية في سياق التجربة الأمريكية ، وهي نقيضة للنظرية الماركسية على مستوى المنطلقات والنتائج « الثالوث الأمريكي المركب : (العولمة - البراغماتية - الليبرالية ) هذا الثالوث الرهيب والذي تعاني وستعاني منه البشرية أكثر وأكثر في ظل مكافحة الإرهاب الدولي ، سنطرح هذه الثنائية في إطار العولمة الأمريكية عبر مقال مرهدنا هذا بإذن الله . يتميز صانعو العولمة بالقدرات العلمية التكنولوجية ، وبطاقاتها الفيزيائية ، واختباراتها ومختبراتها الفضائية ، وما أحدثوه من ثورة في وسائل الاتصال والمعلوماتية ، وما انتهوا إليه من تطور في قواعد وأساليب ومعدات الإنتاج ونوعية المنتجات المستحدثة علمياً ، وفي العديد من المجالات. هنا يتحد العلم التكنولوجى مع الاقتصاد الحديث ليتحكما فى السقف العالمي للنهضة والتحولات ، عبر هيمنة الشركات العالمية المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات ، وكذلك البنوك العملاقة مع التحكم في سوق الأوراق المالية وبورصاتها شبه الموحدة وإحداث أنظمة جديدة للإدارة وتوظيف الأموال . ولهذا السقف أعمدة أُسست له ترتفع به ، ستكون من الدول الصناعية السبع الكبرى والاتحاد الأوربي ، ومؤسسات البنك الدولي ، وصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة (غات) ، ومع كل تفرعات هؤلاء ، وفعالياتهم من الفرانكفونية إلى رابطة الكمنولث الانجلوساكسونية إلى الحدائق الجنوبية لأمريكا الشمالية . وليس العولمة مجرد علم تكنولوجي واقتصادي حديث ، بل هي أيضاً ، ثقافة ذات نسق مفهومي يسعى لتكييف الفعل والسلوك الإنساني ، وهذه الثقافة هي " الحداثة» التي تمهد للاقتصاد المتعولم بثورته التكنولوجية ، لا ليعبر القارات فقط ولكن ليعبر الأديان والقوميات والحضارات والثقافات مكرساً نسقه في التعامل . فهدف العولمة الاقتصادي والتكنولوجي هو التحكم في كوكب الأرض ومحيطه الفضائي وتحويل الإنسان إلى كائن تابع للتكنولوجيا ومستهلك لمنتجاتها ومستهلك لذاته وبيئته في الوقت نفسه . فقيمة العولمة الاقتصادية أن تحقق عبر التكنولوجيا أكبر قدر من الإنتاج وأكبر قدر من الاستهلاك هذه القيمة تجعل مفهوم الإنتاج " مطلقاً « ومفهوم الاستهلاك " مطلقاً» وما يتبع ذلك من " إطلاق» للوسائل والعلاقات . وهذه الأخلاقيات تتطلب أعلى سقف من الليبرالية الجديدة ، وبموجب ذلك لا تعبر القارات فقط كما ذكرنا ولكن تعبر الأديان والحضارات والثقافات ، فالسيد المطلق هو رأس المال المتحرك بقوة التكنولوجيا وفي إطار عالمي . بدأت هذه العولمة باستخدام نسقها حين كانت جنيناً بعد في أحشاء الواقع الأوربي ، حيث تحالف رأس المال مع الحرفيين لإيجاد بدائل للطاقة ووسائل الإنتاج التي أعتمدت وقتها على طواحين الماء ، والهواء والروافع والسواحب والمطارق المساندة للجهد العضلي البشري والحيواني . فتطورت الابتكارات واتسعت الأسواق . ومعلوم أن لا يقبل الرأسمال سيطرة أحد عليه من خارجه ، تحد من حركته وديناميته لتقول له أن الإقراض الربوي مُحرم ، فحوافز رأس المال للإنتاج ليست هي القرض الحسن ، وإنما تحقيق أكبر قدر من تراكم الثروة وتركزها في قبضته ، وكذلك حوافز المشاركة كخيار أول في مرحلة نشوئه وإنما المنافسة ، كما أن أسلوب الترويج السلعي لا يخضع لقواعد أخلاقية ، فإيجاد كافة الوسائل هو منطق العولمة ببساطة لهذا عبر رأس المال حدود الأديان والأخلاق ، فكان أول صدام مع الكاثوليكية والأرثوذكسية بميل متسارع نحو البروتستانية . كذلك فإن الإبداع العلمي المطلوب رأسمالياً لتطور الإنتاج من خلال الحرفيين لا يقبل القول بأن الكيمياء سحر ، ويرفض أي منهج لا تسنده التجربة التي تتطور لتشكل منهجاً « علمياً» يقوم على الاستقراء وليس الاستدلال وينتهي إلى التطبيق وليس التنظير . هكذا انطلق رأس المال ليعبر الأديان ، وليعبر المفاهيم العقلية الميتافيزيقية ويعبر الثقافات السائدة ، فكان أن كون قاعدته الاجتماعية وهي «الطبقة الوسطى « تبعاً لذلك أكسب رأس المال الذكاء الفردي والمهارة قيمتها ، فتأسست الليبرالية الفردية كمنطلق عقائدي لهما واتسعت الطبقة الوسطى ، فلما استشعرت قوتها الاقتصادية والاجتماعية طرحت العلمانية بديلاً للتدين اللاهوتي والتراتب الكهنوتي ، والجمهورية بديلاً للملكية المقدسة ذات الحقوق الإلهية ، والمواطنة المتكافئة على قاعدة الانتماء إلى الوطن بديلاً عن الرعوية . بهذه الكيفية المترابطة تاريخياً والتي استهلكت ثلاثة قرون في المسار الأوربي تم الجمع بين رأس المال والعلم الإبتكاري والحرفيين على أساس الليبرالية والفلسفة الوضعية بعلمانيتها وجمهوريتها ومواطنيتها ، ثم اخترقت العالم منذ منتصف القرن الثامن عشر ، واستقطبت ثرواته وبدأت تتطور إلى مضمون العولمة بسقفها الراهن ، سقف الحضارة الشاملة القابض على التحولات الدولية . من مرتكزات الليبرالية الجديدة في ثقافة العولمة وحداثتها أنها قد فككت بتواصل ثورتها الفيزيائية واندفاعها التكنولوجي كافة أنواع المعرفة النمطية ومناهجها التي كانت تشكل استقراراً فكرياً وفلسفياً للعقل البشري، فالثورة الفيزيائية أشاعت منطق الفلسفة الطبيعية «الوضعية المفتوحة « بتوظيف نظرية النسبية التي فجرت الطاقة وهي نظرية ترفض الحتمية و» الاتساق « والتراكيب الفكرية المسبقة ، بل تجاوزت الفلسفة الوضعية نفسها ، فلم يعد ثمة ما هو ثابت أو مستقر منذ أن بدأت حلقة جامعة فيينا أبحاثها الابتدائية في هذا المجال ورفدتها نقدياً جماعة فرانكفورت ، ثم أتبعها مفكرون لاحقون . فالعولمة بنهجها الابستمولوجي ( المعرفي العلمي المفتوح) تخترق الأيديولوجيات تماماً، كما تخترق ثقافتها الليبرالية الجديدة الأديان والقيم والحضارات . فالمسلمات تفكك ويعاد تعريفها ، لاهوتية كانت هذه المسلمات أو ميتافيزيقية أو حتى وضعية طبيعية . فلم يعد سؤال القيم كما كان دارجاً : لماذا نفعل؟ بحثاً عن الحكمة في العقل ، بل أصبح لماذا لا نفعل؟ رفضاً لأي قيود. نحن إذن أمام مارد عالمي ، متكامل الأبعاد ، من الاقتصاد الحر إلى التكنولوجيا الفضائية ، ومن الليبرالية الجديدة إلى الإبستميلوجيا العلمية المفتوحة ، وذلك ما يتحدد به سقف النهضة الشاملة المعاصرة و تتحدد به التحولات الدولية فكلاهما عابر للقارات بقومياتها وأديانها وثقافاتها وحضاراتها.