الكرامة، ليست أدب الماضي فقط، لأنها حية، ومحكيٌّ عنها في الحاضر، بهيئتها الميتافيزيقية التي تمثلها في الراهن خوارق الكسنزانيين المشهورة في مقام الشيخ الجيلاني ببغداد.. والكسنزانيون في العراق، يبررون الإتيان بالكرامة والتوثيق لها أي تصويرها من أجل خلق الموازنة، بين الروحانية والمادية، حتى ينتبه الناس، إلى حضور الروح وفاعلية التعبد، في ظل سطوة حضارة الجسد المفتونة بخوارق الأرقام القياسية، في دروب الرياضة والفن. وللكرامة الصوفية هيئة دعائية، حين يُتَّخذ تراثها كوسيلة لخدمة مخططات السياسة، كما هو الحال عند قادة دولة الإسلام السياسي، وهي حاضرة كذلك في دعاية السلفيين خلال الحرب ضد الروس في افغانستان..إلخ.. وقد روّجت أجهزة إعلام الإنقاذ، أخبار كرامات منسوبة لمشايعي النظام، مستغلة روح التصديق والبساطة والعاطفة الدينية الجيّاشة لدى السودانيين، وقد كان ذلك الترويج عبر كافة الوسائل الإعلامية ومن فوق كل المنابر، من أجل إضفاء القداسة على القادة وتصوير المقاتلين كمجاهدين لهم حظوة بإتيان الأفعال الخارقة في ميدان المعركة، وبتكبير القرود ومخاطبتهم للوحوش، وللأشجار، وكيف أن الحيوانات كانت تكشف لهم عن مواقع الأعداء وترشدهم في مسالك الغابات الوعرة، وكيف أن دماء قتلاهم قد سالت مسكاً وعنبراً في (ساحات الفداء)..! وقد ظل التلفزيون الرسمي، يخدم هذه الدعاية لثلاثة عشر عاماً، ثم أُقصيت هذه الدعاية، بصورة مؤقتة، عقب (بروتوكول مشاكوس) وما تبع من ضغوط دولية بعد أحداث بعد الحادي عشر من سبتمبر.. والشاهد هنا، أن صوت الدعاية بالكرامات هنا، لم يكن أصيلاً، لأن الإنقاذ نفخت في ذات البوق، الذي صاغ الأوهام النميرية في الإمامة والتهوُّس بالدين، كسلوك تعويضي، لايغاله في دماء معارضيه.. وكما هو معروف، أن النميري في سنواته الأخيرة، فقد بلغ به الوهم حداً جعله يدّعِي مجالسة الأرواح في مقاعد القصر الفارغة..! وكان (النيّل أبوقرون) أحد الذين زينوا الوهم للنميري، ثم اعترف بعد ذلك باعتناقه ل(عقيدة فاسدة)، أعلن توبته عنها، ومهر في يونيو 2001م، بياناً بالتوبة أمام رجال وزارة الشؤون والأوقاف... وهو أي النيّل أبو قرون ثالث ثلاثة ألّفوا قوانين سبتمبر 1983، المسماة بالشريعة، وهو أحد الذين طالبوا الأُستاذ محمود بالتوقيع على ماسمي بالاستتابة، فإذا به يشرب الكأس التي طمع أن يسقيها لزعيم الجمهوريين..! ونعود الى موضوعنا ونقول، أن هناك فرقاً واضحاً بين كرامات الصوفية في الماضي، والدعاية الإنقاذية، لأن البوق الإنقاذي كان يستهدف استغلال الموروث الكامن في الذهن الجمعي، فكانت عملية إعادة إنتاج الكرامة، محض تلفيق، قُصِد به إلحاق وشاح التديُّن بالقيادات وتصوير تابعهم الجندي ضحل الثقافة رقيق الدين، كأنه صحابي جليل..! وقد كان ذلك تحايلاً من نافذة المقدّس، لأن ما أتت به دعاية دولة الإسلام السياسي في هذا المجال، كان مقتبساً من المعين الذي نهلت منه المهدية والطائفية من بعد،، ومثال ذلك، أن كرامات (المسك والعنبر)، الذي يُقال، أنّه (فاحَ) من جثث ضحاياهم،، فهذا منقول من ترجمة ود ضيف الله للشيخ أبو عاقلة بن الشيخ حمد، حيث أورد في الطبقات، أن الشيخ ابو عاقلة بعد موته، (طلعت من قبره رائحة أحلى من العنبر والكافور).. وكذلك كانت دعاية الأخوان المسلمين، في التبشير بالحرب في الجنوب، فهي دعاية لم تخرج عن منطوق سلاطين الفونج، الذين كانوا يحاربون الأحباش (إستجابة لنداء إلهي)..! أنظر: مكي شبيكة، السودان عبر القرون، ص48.. وهكذا، وهكذا، كان استغلال الكرامة إحدى الحيّل الماكرة لإستغفال العامة في ذهنها الذي يتشابك فيه المقدّس والمدنّس، بينما منكرو الكرامات من السلفيين، الذين يوالون الأخوان، لا يرون حرجاً في ذلك الاستغفال..!