الفرق بين ما نسميه عقلية قديمة أو بدائية، وبين أخرى حديثة، لا يكمن في نوع العمليات الذهنية.. بل في طبيعة الأشياء.. فالأسطرة أو الطلسمة أثر دال على أحوال المجتمع، وهي خطابه الذي يكرس مصالح النظام الاجتماعي عموماً. والطلسم ليس مجرد هروب من الواقع إلى عالم الخيال.. والفعل الخارق حين يرتبط بالطلسم يبدو كإعادة إنتاج أو توظيف تاريخي لمعارف الأقدمين. وفي هذا النمط من الكرامات الصوفية، تجد الكثير من رواسب الطَقس القديم مخلوطاً بالسحر، وباستخدامات القدماء لعلم الحرف وعلم الأرقام، بالتنجيم، والفلك، وكل ذلك مخلوطاً بالنص الديني، ممثلاً في المعارف القرآنية والسريانية والهرمسية إلخ.. ليتخذ هذا الخليط من كافة منابعه، وضعية النص المقدس.. هذا المزيج المعرفي، ممثلاً في كتب «الحكمة القديمة» تأثر به أهل التصوف، من واقع اختلاط الثقافات والأجناس سلماً وحرباً، ومن واقع الهجرات مداً وجذراً نحو جزيرة العرب، ومن واقع تأثير وتأثر المسلمين بثقافات بلاد الفرس والهند والروم واليونان، لا سيما وأن أرباب تلك المعرفة، من «الحكماء» يقدمون أنفسهم كتلامذة للصوفية وللفقهاء.وهنالك ألفاظ متناثرة في طبقات ود ضيف الله تؤخذ كإشارات صريحة إلى تلك المعرفة الخليط، والتي هي دليل على تأسلم تلك المعارف على يد الصوفية كممثلين لتيار فكري تاريخي يتسم بالتصالح مع القديم.. وقد اتخذت التجربة الصوفية الكثير من تلك المعارف وزينتها بالنص القرآني، وبأسرار «الأسماء والصفات»، وبأدعية وأوراد، مع اعتماد فهم ضمني بأن التراث الروحي السالف هو تجلي العقل في التلقي عن الإرادة القصوى.. لذا فإن الخط الفاصل بين ما يحاربه الصوفية من طقس السحر، وما يستخدمونه من أسرار النص، هو خط لا يكاد يبين، فنجد الشيخ حمد ود الترابي - كمثال - كان أكثر المشايخ رفضاً للزبلعة، ورغم ذلك هو متهم بها!، لكونه خرق العادة وقام «بتنويم أهالي الخرطوم».. والزبلعة هنا، ترادف الكهانة والشعوذة، وقد وردت في صيغة اتهام لود الترابي في معنى «الفقير الساحر الذي يحدثه الزبالعة بالواقع» أنظر الطبقات، ص165- 168 إلى ذلك كانت فنون الحكماء في «البسط والتكسير» وتسخير القوى الروحية في أفعال الخير والشر شائعة في الحياة الصوفية، ويشار إليها كنوع من الكرامات، خاصة بتوصيفها في قضاء الحوائج والغوث ونجدة الملهوف.. الخ. والكثير من معارف الأقدمين بقيت على حالها فأخذها المشايخ برسمها السرياني غالباً ولم يشذ عن ذلك حتى الإمام المهدي على ما توشح به من رؤى سلفية وتجديدية في آن.. والسريانية عند أهل التصوف هي أصل كل اللغات، والتحدث بها من صفات الإنسان الكامل الذي يعرف لغة جميع الكائنات، وهي اللغة التي يحاسب بها الإنسان في القبر.. قال السيوطي: «ومن غريب ما ترى العينان.. أن سؤال القبر بالسرياني» أنظر: الإبريز، ص 253- 257 ويذكر التاريخ أن المهدي قاد جموع أنصاره إلى شيكان، «منهم من يبكي ومنهم من ينُم، ومنهم من يتكلم بالترجمة السريانية»، أنظر عصمت حسن زلفو، شيكان، مطابع نيكتو، أبوظبي «بدون عنوان» ص147 كما تنسب للمهدي كرامة إرواء الجيش من نبع صخري، وهي كرامة تتناغم مع أصلها في السيرة النبوية، وتأتيها الحكماء بالاستخدام المتقن «لأسرار الأحرف السبعة المعروفة بسواقط الفاتحة». أنظر: أبي العباس البوني، منبع الأصول والحكمة، ص40 هنالك إجماع لدى المسلمين على اختلاف مذاهبهم، بأن «السر» يكمن في النص، ويتقدّم الصوفية على هؤلاء وأولئك بالقول. إن تحري الدقة في استخدام النص «رموزه وأعداده» يورث الفائدة والمعرفة الكشفية.. والكشف عطية إلهية لمن يجود الذكر، «حتى يغلب عليه الحال، فيقول للشيء كن فيكون».. ويقول ود ضيف الله إن هذا المقام كان هو حظ الشيخ عووضة شكال القارح.