الشيخ أبو زيد محمد حمزة زعيم جماعة أنصار السنة الراحل ترك إرثاً هائلاً في المعارك الدعوية التي قادها وتجلى ذلك في اتساع دائرة مريديه من الشباب. ولد الشيخ عام 1925 شمال حلفا، وأكمل تعليمه الأولي في مصر، وكما يحكي هو نفسه بدأ الدعوة «السلفية» بمعارك خشنة مع الصوفية في أروقة الأزهر، هذه المعارك ظلت تلازمه حتى سنواته الأخيرة، ولكن من غرائب مذاقات هذه الشخصية الفذة أنه كان محبوباً رغم خشونة آلياته ولغته. *** التداخل المعقد بين «العزلة والانفتاح» بسبب الموقع الجغرافي أثر في ثقافة الإنسان النوبي؛ لهذا أطلقت بلاد النوبة ظواهر لا حصر لها من تجارب شخصية ناجحة أثرت الساحة السودانية في شتى مجالات الحياة. الطاقة الدافعة لهذه النجاحات الفردية دائماً مستمدة من «المزاج» الشخصي التراثي قبل أي دافع آخر!!.. وبالمزاج نعني الفكر الذي يستمد معاييره من الهوى الفردي «الأفكار- الأحلام- الميول». قلنا من قبل أيضاً قبل أن يصبح التوحيد عقيدة دينية هو في مرحلة الفكرة انفعال بالمعنى، وهذا الانفعال صفة ملازمة للمزاج النوبي، هكذا نجد أن التوحيد بضاعة نوبية منذ أخناتون إله التوحيد في مصر قبل ظهور سيدنا موسى حتى زمن الشيخ محمد سيد حاج، لهذا؛ نعتقد أن الشيخ أبو زيد عندما هبط مصر في الأربعينيات كان حاملاً بذرة «التوحيد» في خلفياته النفسية ولا عجب أن تكون «حلفا» هي البيئة الريفية الوحيدة التي في جوها نبتت الفكرة أكثر من غيرها قبل أن ينتقل أبو زيد إلى الخرطوم. *** شرحنا من قبل بعض صور هذا «المزاج»، ووصلنا إلى ما خلاصته أن الفقهاء النوبيين تتشابه خلفياتهم النفسية، واخترنا نماذج من الصحابة والصحابيات. نواصل هنا في عقد مقارنة سريعة بين معالجات الشيخ أبو زيد ومعالجات مفتي مصر في العهد الأموي «يزيد بن أبي حبيب» لقضايا السخرية، والدعابة والاعتزاز بالنفس، وذلك رغم الاختلاف في «المدرسة» والزمان، حتى صفة التواضع والسخرية التي تحلى بها الشيخ أبو زيد نجد مثلها في التابعي النوبي راوي الحديث (423) في كتب الصحاح! *** والشيخ أبو زيد يحكي كيف أنهم في مصر ضربوه بالمركوب في صحن الأزهر، تذكرت كيف كان يزيد بن أبي حبيب يصف نفسه بالعنزة السوداء ويصف العرب البيض بالضأن! وكان يقول دائماً إن والده من سبي دنقلا. وعندما قيل له ليت الناس كلهم مثلك، قال لهم: «إذن كلهم سوداناً». هكذا استطاعوا بالتقوى أن يتجاوزوا تافهات الأمور وقشور الحياة، هذه الجرأة تجلت أيضاً عندما صادم هؤلاء الشيوخ حكام زمانهم، عندما كان يحكي أبو زيد قصصه في سجون النميري كنت أتذكر أيضاً مفتي مصر وهو يرفض الحضور لمجلس أحد ولاة مصر قائلاً له: «بل أنت فأتني، فإن مجيئك إليّ زين لك ومجيئي إليك شين لك». *** النظرة الكلية للحياة والتشبث بالفكرة والخلفية المزاجية التي لا تميل للصراع الفكري، لم تسعفهما ليتكيفا مع متطلبات العمل السياسي، انعزل التابعي النوبي يزيد عن العمل السياسي لكون الفتن قد كثرت في مصر؛ وهكذا أيضاً فشل الشيخ أبو زيد في التعامل مع السياسيين وكان يبرر رفضه للعمل السياسي بأن «أنصار السنة» غير مؤهلين للعمل السياسي!!.. هذا الموقف دفع الجماعة إلى الانقسام ولكل فهمه وتبريراته! وتذكرت أيضاً والشيخ أبو زيد يسخر من خرافات الأضرحة، مفتي مصر في زمن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز يسخر من أحد الحكام عندما سأله «ما تقول في الصلاة في ثوب فيه دم البراغيث؟».. قال يزيد ساخراً: «يقتل خلقاً ويسأل عن دم البراغيث»!! *** هؤلاء الفقهاء خلفيتهم النفسية واحدة في كل العصور اتفقوا جميعاً على التخلي عن خلفياتهم التراثية لحساب الفكرة التي روجوا لها ولكنهم رغم ذلك كانوا كتلاً تراثية نوبية متحركة!! التصقوا بفكر الدعوة حتى ولو جاء على حساب خلفياتهم الثقافية، رغم البصمات الواضحة للثقافة واللغة والمزاج النوبي إلا أن الشيخ أبو زيد كان مصراً على تسمية لغة قومه بالرطانة.. مفتي مصر كان لا يذكر دنقلا إلا لماماً وكان يعتبر نفسه «عربياً أسود»!.. الشيخ إدريس ود الأرباب لا يذكرون من سلسلة اسمه إلا ب «ود الأرباب».. والشيخ البرهاني كان يطلق على نفسه «الضبع العجوز» ولكن باللغة النوبية، والمهدي ألصقوه بالعروبة!! *** سقنا هذه النماذج لندلل على شدة الالتصاق والتماهي في الفكرة للانبهار الثقافي أو لخدمة الدعوة.. كل هذا كان يحدث ولكن من حسن الحظ البصمات «النوبية» ظلت عالقة بهم ليفاخر النوبيون بالانتماء إليهم فهم شخصيات ناجحة نعتبرهم إضافة لإرثنا المحلي.