أعجب لنوبي يفرز الكيمان بين حلفاودنقلا والأكثر عجباً أن يأتي أحد من الجينات الهاربة لينفصل بدنقلا عن بلاد النوبة! من يتكلمون عن دنقلا كأنها جزيرة مفصولة أشبه بمن يتكلمون الآن عن أم درمان وحضارتها، كأنها قبيلة منفصلة بين المجموعات السودانية، ينسون أن أم درمان جهد جماعي ليس لأحد الحق في الانفصال بها. الانتماء لدنقلا ليس فيه انتماء لقبيلة؛ النوبية ليست قبيلة بل كيان ثقافي بالغ التماسك تبدو كأنها بنية جينية واحدة حار فيها علماء (الإثنيات) والمتعصبون للقبيلة على حد سواء!! الانتماء العرقي في بلاد النوبة نطاقه ضيق في حده الطبيعي، وهذه هي الرسالة الحضارية العميقة التي ترسلها حلفاودنقلا للثقافة الاجتماعية السودانية!! هذه الحضارة تجاوزت القبلية منذ زمن بعيد كما تجاوز العرب قبائلهم عندما فتحوا بلاد الشام.. نحن أمة لا تنتمي لقبيلة بل ( لمدينة) نقول حلفاوي، ونقول دنقلاوي، كما تطور العرب من هوازن، وبني ربيعة، وبني مرة، إلى البصري، والكوفي، والدمشقي، والمصري. الانتماء في النوبية هو علاقة لسانية كما في الشرعة الإسلامية تماماً. العروبة في المفهوم الإسلامي الصحيح محكوم بقاعدة «إنما هي عروبة اللسان» وهكذا الأمر لدينا كما هو ثابت في الأسماء.. هذا الكلام يعني ببساطة أن أي سوداني يستطيع أن يعتبر نفسه حلفاوياً أو دنقلاوياً إذا تعاطى اللغة النوبية أوتقلد ثقافتنا أو انخرط وجدانياً وهذا الأمر ليس صعباً! إذن لا يكفي أن نقول إننا لسنا متعصبين بل نقول بملء الفم إننا نقدم أقوى ترياق «دواء» لعلاج العنصرية والتعصب القبلي في السودان، هذه قيمة ثقافية غير مسبوقة في الوعاء السوداني القبلي. إذن لا أحد يملك حق وصفنا بالعنصرية ولا حق الفرز الاجتماعي والعرقي بين المجموعات النوبية، الفرق بين حلفاودنقلا هو فرق مناخات ثقافية انعكست على شكل لهجات نوبية مختلفة، ولكن الكيان الحضاري واحد. أما مصطلحات مثل «الأشكر والنوبيين» مصطلحات أطلقها الباحثون الأكاديميون وهي إشارات لم تكتمل بعد لتحرير المعنى، لهجات محلية العلاقة بينها لا تحتاج لنظريات في الردهات الأكاديمية. الاختلافات موجودة أيضاً بين مجموعة الشمال.. هناك اختلافات تبدو طفيفة بين السكوت والمحس. وبين السكوت حلفا ولكن الفرق أن العوامل السياسية الضاغطة التي شكلت الثقافة الدنقلاوية ليست موجودة في الشمال. الفوارق الحادة بين المفردة اللغوية بين دنقلا والشمال النوبي سببها العزلة السياسية الحادة منذ عصر الفونج إلى عصر محمد علي باشا. لحظات التكوين الكبرى في منطقة دنقلا الحديثة، بدأت بالهجرات العربية المفاجئة نتيجة للتقلبات السياسية في مصر في بداية القرن الرابع عشر. هذه الهجرات المباغتة وصفها ابن خلدون بوضوح تام في «المقدمة». هذه التفاعلات العنيفة استمرت حتى أخذت دنقلا شكلها النهائي بدخول جيش إسماعيل باشا عام 1821م. *** في الخمسة قرون الأخيرة كانت دنقلا شبه معزولة عن المنطقة النوبية الأم.. حواجز حدودية واضحة وضعت أثناء حكم الكشاف للشمال والعبدلاب لدنقلا في منطقة أبو حنك ثم أبو فاطمة. بصمات هذه الحدود موجودة حتى الآن في منطقة التماس جنوب الشلال الثالث، ورغم أن الحدود الجنوبية كانت مفتوحة لعرب البدبرية والشايقية إلا أن التركيز الثقافي لم يكن من السهل مقاومته، لهذا صمدت اللغة النوبية.. إذن كل هذه العوامل عمقت المركزية الثقافية حتى كادت دنقلا أن تنفصل عن الشمال اجتماعياً؛ العامل السياسي هو السبب الأساسي لتلك المفارقة التي حار بعض الناس في فض معاينيها، فقد كانوا يتساءلون : لماذا دنقلا أقرب إلى أسوان المصرية من حلفا النوبية؟ والإجابة كانت بسيطة جداً هي: السياسة التي جمعت بين المراكز والطرق الصحراوية البعيدة عن النيل. بسبب المجموعة الكنزية التي حكمت دنقلا وبسبب المماليك الذين حكموا دنقلا بعد هروبهم من مجازر محمد علي باشا، أصبح الشبح الاجتماعي والثقافي لدنقلا أقرب لأسوان المصرية البعيدة جغرافياً من دلقو وصاي وحلفا.. إذن السبب في منتهى الوضوح سبب سياسي.. دنقلا كما عبرت عنها رواية «دنقلا» للكاتب النوبي المصري إدريس علي كانت عمقا استراتيجياً للمنطقة النوبية. لجأ إليها كل الذين هربوا من مصر. كهنة آمون الذين ازدهرت بهم إمبراطورية بعنخي لعبوا دوراً أشبه بدور الكنيسة القبطية التي هربت بدورها إلى بلاد النوبة ثم تكرر الأمر مع القبائل العربية التي طاردها الشعوبيون من مصر في الأحقاب المختلفة، بدأت مع الطولونيين ثم الإخشيديين والفاطميين والأيوبيين. استمرت موجات اللجوء للمركز النوبي الذي كانت دنقلا تمثلها لخصوبة الأرض والموقع الجغرافي. هذه هي العوامل الرئيسية التي كونت على مر العصور الشخصية الدنقلاوية وهي ابنة شرعية لخصوصية نوبية كانت وما زالت ثابتة في الزمان. دنقلا النوبية قدمت للوافدين الإسلاميين شيئين هما: الأرض واللغة النوبية والتسامح. تسامحت مع القبائل الوافدة، لأن العرقية لم تكن تشكل مشكلة في الوعي المحلي! أما الشيء الثاني: إن المزاج المحلي كان مستوعباً للدين الإسلامي بطريقة معمقة، ولكن طبقاً لشروط الثقافة النوبية، معلوم أن الثقافات المستقرة تمتحن الثقافات الوافدة ثم تستوعبها وجدانياً. لو رجعنا لجذور هذه الخصوصية سنشاهد كيف أن المزاج المحلي استوعب ثقافة الكهنة وأعاد إنتاج الإله آمون بطريقة جديدة أنتج في نهاية المطاف إله كوشي صرف هو ما سماه المؤرخون بالإله أبا دماك. هذا الوافد الديني تم استيعابه أيضاً من الديانة المسيحية، وقد شرحنا هذا في إصدارة (سره غرب) مستعينين بكتاب الأب فانتيني (الممالك المسيحية في بلاد النوبة).. هناك أحدثوا مفهوماً جديداً لفكرة الثالوث المسيحي وقدموا تخريجاً يوحد الأقانيم الثلاثة «الأب والابن والروح القدس» وحكينا كيف أنهم أحدثوا الجديد في التصوف المسيحي، حتى أن المطران كان يقبل قدم أحد الرهبان النوبيين لأنهم كانوا يعتقدون فيه كرامات كتلك التي نسبت لشيوخ التصوف الإسلامي فيما بعد. *** في الحلقة القادمة: (الدنقلاوية) أرض وثقافة نوبية وليست عرقاً وقبيلة، لهذا أنتجت مدارس في التصوف!!