٭ بعد أن ظفر «الدرويش»، بخيت منديل بخمسة من مطلوبية الستة للثأر لمعشوقته الموؤودة «ثيودورا»، التي قام بدفنها بيديه، دون أن يعلم، عندما استأجره الطاهر جبريل أحد من غدروا بها.. وهم إبراهيم الشواك وابنه عبدالقيوم وموسى الكلس والنعيم ود حاج طه «الدليل»، الذي أبلغه بما جرى لها في «قعدة مريسة» بمنزل بائع الخضار إدريس النوباوي في الفتيحاب.. بينما نجا غريمه يونس ود جابر أول المطلوبين، وكان آخرهم ود الشواك نفسه الذي كمن له وقتله في المسلمية، ثم فر هارباً، ولكن «الفزع» بقيادة الحسن الجريفاوي لحق به قبل أن يصل إلى مأمنه الذي قدر أن يكون «أبوحراز». ٭ وبرغم ما ناله بخيت من ضرب وتعذيب وإهانة على يدي مرافقي الحسن إلا أن الحسن كان أكثرهم حنواً ورأفة به، فأبقى على حياته، ليكون مدخلاً لحوار مهم مع الدرويش بخيت - يطرح من خلاله الكاتب حزمة من القيم المتعلقة بالعدل والرحمة والحب ومعانيه والإيمان ودوافع السلوك الإنساني، أينما وكيف ما كان، وأسئلة عن كيف بدأت المهدية «كدعوة» وإلى أين انتهت.. من خلال «دايلوج» أو حوار بين المُطارد والطريد.. و«منولوج» وتأملات ذاتية للحسن بمفرده.. فتلك القيم الإنسانية تتخطى بؤس الواقع ومراراته وانقسام البشر إلى معسكرات للأصدقاء والأعداء.. قيم تبقى قائمة بذاتها ومطلوبة في كل الأحوال. ٭ حكى بخيت للحسن الجريفاوي قصة عشقه ومأساته مع «ثيودورا» التي دفعته للثأر والانتقام.. «حكى بخيت للجريفاوي وهو يطعمه على مسيرة يوم من المسلمية.. لم ينطق الحسن لكنه فكَّر: «هل يكبنا في النار إلا أنا أُمرنا فأطعنا؟»!.. أعاده حواره مع بخيت إلى مشاركته في الهجوم على المتمة واغتياله طفلة ظلت تؤرق منامه بزيارة خيالها له كلما أغمض عينيه تسأله عن أمها.. يوم أن آمن الحسن بالمهدية وطلّق زوجته الحلوة التقية فاطمة وغادر مسيد شيخه «الدويحي» عرف أنها نهاية العالم.. سيغزو فاتحاً ليدخل الناس في دين الله أفواجاً.. سيعم عدل المهدي الأرض وسيشرق النور ويعم الدنيا.. وعد المهدي عليه السلام بفتح مكة ومصر وبلاد الشام وديار الترك. كان يؤمن بأن الإسلام هو العدل والخير.. الإسلام هو عكس التركية، حيث الظلم والقهر والقتل.. لكنه في المهدية ولغ في الدم وخاض في الموت.. ما عادت الأمور واضحة.. المهدية «عنده» حق لا شك فيه.. لكن ما بال رسالة الله تنشر الموت.. لو كان التقى «بخيت» قبل عشر سنوات لقتله بلا تردد، بخيت مجرم قاتل.. ثم يمضي الحسن في تأملاته: إن كنا على الحق فكيف ظلمنا وقتلنا ثم هُزمنا؟!.. أليس بخيت منديل قاتلاً؟ أم تراه شخصاً سيء الحظ؟ لقد قتَل وقتلنا، هو قتل لأجل حبه.. ونحن قتلنا لأجل مهدي الله عليه السلام! ٭ يتقدم نحو بخيت، أسيره المكتوف على الأرض. يرفع بخيت رأسه ينظره.. في عيني بخيت سكينة ورضا كأنه عابد على أعتاب الجنة.. يسأله الحسن: ألست خائفاً.. بخيت: العاشق لا يخاف لقاء من يحب.. الحسن: ستموت على معصية.. بخيت: سأموت مقصراً إن ما قتلت «يونس ود جابر».. الحسن: هل تشرك بالله امرأة؟.. بخيت: وهل الله إلا محبة؟ ٭ وعن الحسن الجريفاوي، باعتباره معبراً عن أحوال كثير ممن ناصروا المهدية قبل الفتح يكتب حمور: لكن الله أكرمه بمبايعة مهديه، فحق عليه قول المهدي: إن أقل أصحابه أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لكن حكم المهدية أوجع إيمانه.. يوم كان أنصار الله يقاتلون الكفار في قدير وأبا والأبيض وشيكان.. كانت الملائكة تقاتل معهم، تمشي بينهم، تحادثهم، وتمدهم بالسلوى.. تعدهم النصر وملك الخرطوم.. فلما ملكوا الخرطوم فردت الملائكة أجنحتها وصعدت إلى السماء وتوارت. ويتساءل حمور: هل العائد من المتمة مثل الخارج إليها؟ ٭ ما جمع بين الحسن وبخيت هو حب الأول «لفاطمة» التي فقدها «في شان الله» وحب الثاني «لثيودورا» الذي ملك عليه أقطار نفسه وأحاله لدرويش ومهووس لا شيء آخر يشغله سوى الثأر ممن خانوها وقتلوها. ٭ كانت وصية بخيت الأخيرة للحسن: أنا ميت يا ابن العرب منذ سنوات. لكن لي دََيْن واجب السداد، فإن قبلت وصيتي فهي أن تحمل خبري إلى امرأة في أم درمان اسمها «مريسيلة».. قل لها كيف قُتِلْت.. أخبرها أني وفيت ديني «لحواء» - ثيودورا - ما استطعت.. لكن «يونس» أنجاه من أنجى سميه من الحوت. ٭ وبعد.. تلك هي أبرز معالم رواية حمور زيادة «شوق الدرويش»، التي هي غابة كثيفة من الحكي والأحداث والصور المتداخلة، فعلنا ما استطعنا لتقديمها ميسرة للقراء، وهي لعمق محتواها ولغة كاتبها الناصعة، بنثر يعانق خصلات الشعر، تستحق معاظلة القراء وتجاوز ارتباكاتهم للفوز بالمتعة المنتظرة والفائدة المرجوة.