حزنٌ دفيق في هذا العيد، قادني إلى «حدّ الدُنيا»، إلى قريتي النائية، إلى «دنقلا العجوز»، في أقصى الشمال.. رفعت الفاتحة، ولملمت دثار نفسي وخرجت من بيت البكاء، أتفقّدُ مراتع صِباي.. دروب زمني الخائن، امتلأت بأرتال الحديد الخُردة.. سيارات متهالكة من مستهلكات عُربان ما وراء البحر المالِح، بعضها يزحف، وبعضها رابض أمام البيوت..! مضت الأيام التي كنا نكرُب فيها «الصّريمي» ونركب حميرنا، ولا نتكلّف إلا عناء سقياها في الجنّابية، وتقييدها في «البَرَوِدْ»..! لا بنشرجي ولا اسبيرات، ولا بنزين.. كان النزول إلى «الجزيري»، والعوم في البحر، كافياً للمعاش والسلوى..! وجدتهم قد هجروا ضفاف النيل، والطنابير، وقعدة الليل فوق رمال القمر..! لقد «شَدَهتْهُم» الحياة، وجار عليهم النيل سنةً بعد أُخرى، فجافوه حتى جفاهم.. ضفاف النيل ظمأى هذا العام.. رائحة الطمي وأنفاس النهر التي كنت أكرُفها وأنا في «القبولاب»، أصبحت ذكرى.. دخلت الكهرباء إلى المشاريع، لكن الشطآن الخضراء تقلّصت كما تتقلّص أيام العمر.. الجروف التي كانت ترتوي من ماء الفيضان، أضحت جديبة تسفّها الرياح.. نبات السِّعدة العِطري كان أحد روابطي بالبلد والبقول من الشطآن، كل ذلك أضحى وشماً في الخيال..! لا شيء أخضر فوق القيف غير شجيرة الفأس، و«الكَدْرَباس» الذي تتقاتل عليه عصابات المافيا في أميركا اللاتينية..! آلاف الأفدنة كانت تنتج اللوبيا وعيش الريف، والطماطم والفاصوليا بعد كل موسم من مواسم فيضان النيل، أضحت قاعاً صفصفاً، بينما القماري لم تيأس بعد من انتظار الفجر الطالع.. هدير الكسّارات الاستثمارية يدوي في صحرائنا.. جرارات المال الخليجي، تمخر رمال أمون رع، غير عابئة بما في جوفها من أسرار الكنداكات.. كان الطمي وال «كلّلرو» الأرض العفا في قلب العتامير، كان كله لنا.. يقال إنهم باعوا كل شيء هناك لصاحب الرِّيال والعُقال..! قريتي المحشورة بين جبل وماء، التي استعصت على دراويش المهدية، هي الأخرى بيعت لمطوّعينَ من بلاد النفط، بوعد «من لا يملك لمن لا يستحق»..! الله على غرسنا القديم الذي نحيا به ونموت عليه، الله الهص على جضول النخل في موسم الضنى، إنها تسبر غور الأرض ولن تموت إن كان الحياء في الصدور.. ومع ذلك، فلن يتمرّد أهلي حتى يستيقنوا من أين جاءت الضّربة..! لن يتمردوا حتى يعرفوا ما إذا كانت مصيبتهم آتية من الشمال العربي، أم من «خرسانات» النهضة، أم هي ذات الفاجعة، التي تحدّث عن نفسها في الخرطوم..! سمعت الخطيب يدينهم، ويجرّعهم مزيداً من التنويهات، ويقول لهم «بيِّضوا النيّة، فإن مصيبتكم تنبع من سويداء نفوسكم»..! الحكومة التي لم نكن نعرفها، ولا تعرفنا إلا في موسم الانتخابات، أصبح لديها مسجدها في كل حي..! الحر شديد، لكأني لم أعش يوماً هنا.. حقاً أن درجة حرارة الأرض قد ارتفعت ومعها الأسعار، والمدينة التي هربت منها دخلت حتى «تُكل» البيت.. أجيال جديدة تمُر أمامي، فلا أعرف منهم أحداً، ولا يعرفني إلا العواجيز.. أمي أيضاً قد تغيّر «كيفها» مع مرّ السنين.. وجدتها تستبدل حُقة التمباك بالكمون الأسود، تكرفه مرّة وتمضغه تارةً، كلما وطئت خزاز الصمت.. لم يعد ممكناً تضرُّعي في جزيرتنا التي خرشها الهدام، وتناثر فوقها نبات الحلفا الأصفر، وشجر المسكيت التي تمتص الرواء حيث كان. كان موطني جميلاً، وكانت الشبابيل على قفا من يشيل..! موطني يمتليء اليوم بالقوارض، والدبايب، وأهلي مقبلون على موسم جفاف لا مثيل له، لكنهم حتماً لن يتمردوا، لأنهم ينتظرون عودة المسيح، وبعضهم يتطلع إلى ناشئة الليل، وبعضهم يصبر، والصابرات روابِح..!